مع انقضاء الأيام الأخيرة من السنة المنتهية، تتعذر مقروئية المشهد السياسي الوطني خلف ضبابية مشوشة، في حين، تندفع البلاد في غموض وارتباك شديدين نحو العام الجديد 2019، الذي يبقى مقلقا، بقدر ما يحمل من آمال وتطلعات نحو مستقبل أفضل.
وفي وقت تختلط فيه أوراق اللعبة السياسية وتتبعثر أحجارها، وتتشابك المواقف حيال رهان الاستحقاق الرئاسي القادم، قبل عدة أشهر من ذلك الموعد الانتخابي الكبير، يتأكد اليوم أكثر من أي وقت مضى، الوجه الآخر للتساؤل المطروح بالنسبة لموريتانيا بخصوص إمكانية تحقيق تناوب انتخابي سلس على مقاليد السلطة.
فالقضية لا تنحصر في مجرد انتهاء أو إمكانية استمرار حكم نظام بات مرتبطا بشخص الرئيس محمد ولد عبد العزيز، بقدر ما تتعلق بمعرفة إلى أي مدى يمكن لهذا النظام بصفة خاصة، وللنخب السياسية الوطنية الفاعلة بشكل عام، أن تكون جزءا من الحل أو جزءا من المشكلة بالنسبة لمستقبل البلاد واستقرارها وأمنها القومي؟ بل واستمرارها على الخارطة، ضمن معطيات جيوستراتيجية محلية، وإقليمية ودولية بالغة التعقيد، يتراءى من خلالها بوضوح، شبح انزلاق خطير إلى أتون صراع مجتمعي-اقتصادي-سياسي، على خلفية تصدّعات باتت عميقة داخل النسيج الإجتماعي، وقد يعصف تفجرها في أي لحظة، بالوحدة الوطنية للبلاد وينسف ما تبقى من السلم الأهلي بين مكوناتها.
صحيح بأن السياسة هي فن تدبير الممكن.. والممكن قد لا تكون له حدود.. فهل ستتمكن النخب الموريتانية من تجاوز مرضها الطفولي من أجل رسم مستقبل سياسي أفضل للبلاد، بشكل يحسم موضوع شرعية الوصول إلى السلطة وتداولها، لصالح التغيير الديمقراطي التعددي والسلمي، بعيدا عن كل أشكال العنف كخيار بديل؟ وبما يضمن استتباب السلم الاجتماعي ويحقق التنمية الشاملة والمتوازنة؟
لا أحد يستطيع حتى الآن معرفة ما إذا كان الرئيس محمد ولد عبد عزيز، ونظام حكمه، ومثله في ذلك أطياف النخب السياسية الوطنية الفاعلة، سيحسنون قراءة هذه اللحظة التاريخية، وما تنطوي عليه في ذات الوقت، من مخاطر جمة ومن فرص واعدة بالنسبة لمستقبل البلاد. لكن، مهما يكن.. يتوجب على الجميع أن يأخذ العبرة ليس فقط من التاريخ.. بل من الماضي القريب.. ومن الحاضر أيضا.
فلم تكن بداية مسار الكارثة الرهيبة التي حلت باليمن، سوى تردد الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح رحمه الله، بعد أن قضى 34 سنة في الحكم. فقد أعلن بداية عن نيته عدم الترشح لمأمورية إضافية، ثم ما لبث أن تراجع عن ذلك الالتزام.
والعبرة هنا أن اليمن، حتى بعد أن سلم الرئيس صالح السلطة، بعد انقضاء سنة كاملة من الاحتجاجات والقلاقل، وذلك بموجب المبادرة الخليجية التي وفرت له حصانة من الملاحقة القانونية تم إقرارها في مجلس النواب اليمني باعتبارها قانونا سياديا لا يجوز الطعن فيه، فإن ذلك التراجع المتأخر لم ينه الأزمة في اليمن، وإنما تطورت الأمور بشكل دراماتيكي إلى حرب أهلية.. ثم جرى تدويلها بعد ذلك بالشكل الذي يعرف الجميع حتى اللحظة، نتائجه المأساوية على كل الأصعدة.
أما في البلدان الإفريقية، فقد كانت كل محاولة لتعديل الدستور تفوح منها دائما رائحة الكبريت. ففي أذهان الأفارقة، لكثرة ما عانوا من مراوغات الأنظمة المستبدة التي لا تريد التداول السلمي للسلطة، فإن مصطلح تعديل الدستور لم يعد يعني بالنسبة لهم أكثر من التلاعب والعبث به.
واليوم، تثير الشكوك المتزايدة حول عدم احترام عدد من الرؤساء الأفارقة المنتهية ولاياتهم لدساتير بلدانهم، خاصة في الكونغو، والكونغو الديمقراطية، وبوروندي ورواندا، موجة من الاحتجاج ضد المحاولات المتكررة لإعادة إنتاج رؤساء مدى الحياة أو تكريس "ممالك رئاسية" بحكم الأمر الواقع في العديد من البلدان الإفريقية.
ولم يتردد بعض الرؤساء الأفارقة مثل "بليز كومباوري" في بوركينا فاسو، و"عمر بونجو" في الغابون و "بول بيا" في الكاميرون و"يوري موسيفيني" في أوغندا، و"عبد العزيز بوتفليقة" في الجزائر، في إجراء تعديلات دستورية لإلغاء أي قيود على مدة أو عدد المأموريات الرئاسية.
وفي هذا السياق، على النخب في بلادنا أن تتذكر بأن جذور الأزمة السياسية الحالية في بوروندي تعود إلى تصميم الرئيس "بيير كرونزيزا"، بعد 10 سنوات في الحكم، على الترشح لمأمورية ثالثة سنة 2015 مخالفا بذلك أحكام الدستور في بلاده، وهي الأزمة التي أسفرت حتى الآن عن مئات القتلى ومئات آلاف النازحين.
أما في جمهورية بوركينا فاسو، التي هي دولة عضو معنا في مجموعة دول الساحل الخمس، فقد أدت الرغبة الجامحة لدى الرئيس الأسبق "بليز كومباوري"، سنة 2014 وبعد 27 سنة في الحكم، في تعديل الدستور لكي يتسنى له الترشح سنة 2015 لمأمورية خامسة، إلى ثورة عارمة.
آنذاك، لم يكتف الشارع الساخط بإحراق مقر البرلمان في اليوم الذي كان مقررا أن يصادق فيه على مشروع التعديلات، وإشعال مقرات الحزب الحاكم، بل أسقط الرئيس نفسه، الذي فر مع أفراد من أسرته إلى الخارج بمساعدة أجنبية، رغم كونه ظل يردد، حتى قبيل سقوطه، أنه لا يخشى الثورة.
المشكلة أنه بعد تفجر الأوضاع في ذلك البلد، لم تنجح الحكومة- حتى بعد الإعلان عن إلغاء مشروع مراجعة الدستور- في تهدئة الغضب الشعبي. وقد تطلب الأمر أن تتدخل القوات المسلحة لتعلن يوم 31 أكتوبر 2014 عند الساعة الواحدة زوالا أن الرئيس قد وقع على وثيقة استقالته، وأنه اختفى نهائيا من المشهد الوطني.
هذه مجرد أمثلة ضمن حالات كثيرة، سقتها تذكيرا للنخب في بلادنا بضرورة أن نأخذ العبرة، وأن نتحلى بالمسؤولية حيال مصير البلاد والعباد، ما دامت الفرصة تسمح بذلك وقبل فوات الأوان.
على المستوى الداخلي، يظل الشارع الموريتاني بطبيعته طيبا ومسالما، لكنه محبط حتى النخاع، ومثقل بهمومه اليومية وبمكابدة ظروفه المعيشية القاسية. وقد مل كثيرا الوعود والمواعيد، وسئم المتاجرة بمعاناته من طرف السياسيين. وقد تعرض هذا الشارع للكثير من الضغط والسحق والاستغلال السياسوي في الوسط الحضري، الذي يمثل نسبة 95 بالمائة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، المتركز أساسا في المدن الكبرى، مما أدى إلى خلخلة البنيات المجتمعية والثقافية لهذا الشارع الذي أصبح متشنجا، ناقما وساخطا، وهو ما يسهل تجييشه، لكن خطر الانفلات الفوضوي يبقى قائما، وقد يؤدي بالشارع إلى مواجهة غير محسوبة مع كيان الدولة والمجتمع، وما قد يترتب على ذلك من تداعيات كارثية على البلاد والعباد.
أما على المستوى الإقليمي والدولي، فالبلاد تظل الحلقة الأضعف في مواجهة الأجندات والأطماع المختلفة، وهو ما يملي ضرورة بلورة موقف منهجي نقدي على مستوى التعاطي مع السياسية الخارجية، يؤمن للبلاد مستلزمات الاستقرار والأمن الأساسية، ويجعل دبلوماسيتها أداة حقيقية لخدمة تطورها وتنميتها، وتعزيز إشعاعها الحضاري، بكل إيجابية وبعيدا عن التشنج، والارتجالية والمضاربة، وردود الأفعال.
في الأخير.. أعتقد بأن بلادنا ليست بحاجة للمخاطرة باستقرارها الهش، لا في اتجاه إعادة إنتاج لا شرعي لنظام غير مرغوب فيه على نطاق واسع، لما قد يترتب على ذلك من مخاطر جمة، ولا في اتجاه تعبئة الشارع بشكل أعمى من أجل زعزعته وخلق فراغ قاتل.. قبل إيجاد بديل يكون مقبولا ويمكن الركون إليه، فذلك سيبقى السيناريو الأسوأ في تقديري. كذلك، لا مصلحة للبلاد طبعا.. في العودة إلى مربع الانقلابات العسكرية، وتكرار أخطاء الماضي الفادحة.
ما العمل إذن؟ لا بد من الحكمة والتأني والتبصر.. ولا بد من التجرد والإخلاص في سبيل إنقاذ البلاد والعباد.. ولا بد من مقاربة مبتكرة للخلاص، نعتقد بإمكانية تلمس ملامحها عبر السعي الجاد لكي تتعاون النخب في هذه البلاد من أجل بناء فُلْكِ سياسي لإنقاذ الوطن، يكون نوعا من "سفينة نوح" تؤمن النجاة لهذا البلد وأهله وسط أمواج متلاطمة.
نحن بحاجة ماسة لنسق سياسي جديد "براديغم" "paradigme" يتسامى على ثنائية القطبية الحادة، ويتجاوز الكثير من التناقضات الثانوية. ويمكن لهذا الفلك السياسي أن يتخذ شكل جبهة وطنية عريضة، تدعو لحوار وطني شامل، يعيد تأسيس الجمهورية على قواعد متينة ويكرس ديمقراطية حقيقية؛ ويشكل إطارا جامعا، ليس فقط لأطياف المعارضة وأحلافها المختلفة، بل أيضا لـ "الأغلبية الصامتة" من الشعب الموريتاني، ليشكل بذلك صمام أمان في مواجهة العدمية السياسية وحاجزا أمام تحديات المجهول.
ويمكن أن يعمل هذا النسق السياسي الجديد كمنصة لتنسيق تعاطي مختلف القوى السياسية في البلاد مع الوضعية الراهنة والآفاق المستقبلية، وكذا بلورة خارطة طريق سلمية تعيد الأمل إلى استحقاق التناوب في 2019، وترفع عنه حكما مسبقا بوقف التنفيذ.
فهل سنستطيع الإمساك بالفرصة الأخيرة قبل الطوفان؟ أم سندعها تتفلت من بين أيدينا غفلة، أو عن سوء تقدير للموقف بسبب الغموض والارتباك؟
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire