vendredi 3 janvier 2014

المجتمع المدني و الديمقراطية في العالم العربي

توطئة:
انعقدت في انواكشوط في شهر ابريل 2013، ورشة تفكيرية حول " تبادل خبرات منظمات المجتمع المدني في العالم العربي"، بالتعاون بين المركز المغاربي للدراسات الإستراتيجية و شبكة الديمقراطيين في العالم العربي NDAW. و قد شارك في أعمال تلك الورشة أكثر من 50 منظمة و هيأة و شبكة من المجتمع المدني في موريتانيا، بينما تولى الإنعاش و تقديم العروض خبراء من شبكة الديمقراطيين في العالم العربي هم: فادية قاسمي من تونس، و  فوزي جوليد من أمريكا، والمختار بن عبد اللاوي من المغرب. أما مهمة تسيير الجلسات فقد أسندت لشخصيات أكاديمية و باحثين و خبراء استشاريين في مجالات المجتمع المدني و الانتقال الديمقراطي، من موريتانيا هم: ديدي ولد السالك، و أم كلثوم بنت حامدينو/ المركز المغاربي للدراسات الإستراتيجية،  محمد ولد سيد احمد فال الوداني/المركز الموريتاني للدراسات و البحوث الإنسانية، محمد الأمين ولد الكتاب/ نادي المثقفين الموريتانيين، محمدو لد محمد المختار/أكاديمي، و محمد السالك ولد ابراهيم/ المركز الموريتاني لأبحاث التنمية و المستقبل. 

حررت الورقة التفكيرية التي بين أيدينا تعقيبا و تعميقا لأعمال تلك الورشة  المذكورة، و محاولة لاستثمار المناخ الفكري و المعرفي و التطبيقي الإيجابي الذي رسخته أعمالها. و تبقى الوثيقة في النهاية مجرد رأي كاتبها و لا تلزم غيره. و هو سيكون ممتنا لكل الزملاء الذين سيسمح وقتهم بموافاته بأية ملاحظات، أو نقد أو إثراء للأفكار التي تناولتها الوثيقة.

المجتمع المدني: إشكالية المفهوم و السياق
يشير مفهوم المجتمع المدني في الأدبيات العامة إلى كيان مستقل عن الدولة (منظمات غير حكومية) من جهة، و عن السوق (منظمات لا تهدف للربح) من جهة أخرى. لكن الحقيقةً هي أنّ العلاقات بين هذه الأطراف جد متداخلة و مشوشة في العالم العربي. و بينما يشكل المجتمع المدني اليوم منبرا فعالا لمجابهة و تحدي رؤى مختلفة و مشاريع كونية متصارعة، إلا أنه يظل في الوقت ذاته موضوعا للتحدي و ساحة للصراع و المجابهة بين أطراف عديدة. 

من الناحية النظرية، شكل مفهوم مدرسة الممولين حول المجتمع المدني، الذي يستند أساسا على البعد السوسيولوجي،  مرجعية طالما سيطرت على أذهان كثيرين، تعتبر المجتمع المدني شكلا مجتمعيا منظما لفضاءٍ بيني وسيط، لا هو كالسوق فهو غير ربحي، و لا هو كالدولة فهو غير تسلطي. و هنا يتخذ الفصل المفاهيمي للمجتمع المدني عن الدولة أهمية بالغة ليس لأنه يعبر بدقة، و لو نظريا، عن واقعٍ قانوني و مؤسسي، بل لأنه يجعل من الممكن حماية هذا الفضاء في وجه قمع الدولة.  بينما طمس الجانب الأخر للمفهوم الذي يتعلق بالتناقض بين المجتمع المدني و السوق، رغم أن دور المجتمع المدني يستند إلى فرضية أن مهمته هي قبل شيء أن يكون صمام أمان لكبح جماح و جموح الدولة و السوق كليهما تجاه الهيمنة على المصالح الحيوية للمجتمع.

استحوذت الإمكانية الديمقراطية للمجتمع المدني على تصورات الممولين في ظل وضع دولي بدأ يتجه نحو أحادية قطبية طاغية، منتشية بإرهاصات انحسار المد الاشتراكي عبر العالم. فتم افتراض صحة علاقة غير مبرهن عليها بين الديمقراطية و المجتمع المدني. و في المقابل، أُعير اهتمام أقل لتحليل طبيعة العلاقة بين المجتمع المدني و السوق.

و مع صعود نجم الليبرالية المتوحشة من خلال نموذجي "الريغانية" و "التاتشرية" و تقهقر الثنائية القطبية، نجح مناهضو الدولة  الذين هيمنوا على نقاشات المجتمع المدني خلال حقبة الثمانينيات و بداية التسعينيات من القرن الماضي، في تغذية و تلميع صورة أسطورية حول المجتمع المدني رغم هشاشته البنيوية و ضحالته المعرفية و ضعف فاعليته في أغلب بلدان العالم النامي. فصورت "مدرسة الممولين" - التي ينظر لها البنك الدولي و الهيئات الغربية المانحة- المجتمع المدني كجبهة منسجمة لأناس طيبين يناضلون من أجل الحريات و حقوق الإنسان المهدورة ضد استبداد الدولة. و هكذا، أظهر المجتمع المدني على أنه المكان "الجيد" الوحيد في مواجهة الدولة "السيئة" برمتها. و هو ما أدى إلى بروز المجتمع المدني داخل بلدان العالم النامي "كبؤرة" مقلقة، أصبحت توظف بصورة مزدوجة لتشجيع الضغطً الخارجي على الدولة لتمرير أجندات الإصلاح و التغيير، كما أنها تستخدم داخليا لدواع سياسية حزبية أو لأغراض أمنية تقف الدولة وراءها من خلال عمليات الاختراق العديدة لهذا القطاع الذي ظل يشكل الحلقة الأضعف في النموذج الثلاثي للتنمية، الذي تشكل أضلاعه كل من الدولة و السوق و المجتمع المدني.  

لكن المنظمات الأهلية استطاعت إفشال قمة التجارة العالمية في "سياتل" بالولايات المتحدة الأمريكية في ديسمبر سنة 1999. تلك المنظمات الأهلية التي أصبحت الآن تقود المفاوضات حول القضايا الدولية الكبرى (الكفاح من اجل السلام العالمي، مناهضة الحروب، الحفاظ على البيئة و مكافحة التلوث، معارضة الآثار السلبية للعولمة، الخ…) نيابة عن الحكومات أو بموازاة معها. و قد كان ذلك المشهد برمته طريقة جديدة في التعبير عن الاستياء العام من عواقب الرأسمالية الجامحة التي يؤيدها الليبراليون الجدد في الغرب وعن خيبة الأمل من قيادة الدولة المستبدة لعمليات التنمية في البلدان النامية. لقد كان ذلك جزء من تحول معياري حيال نموذج الدولة والمجتمع المدني و السوق داخل المجتمع الغربي و نخبه الفكرية التقدمية سواءً بالنسبة للاقتصاديين "الكينزيين" أو لتنويعات الاشتراكيين الآخرين. 

و قد مكن نضج و تطور المجتمع المدني من تكوين قاعدة احتجاج عريضة لمقاومة طغيان رأس المال العالمي و تحميل الشركات المتعددة الجنسيات مسؤولياتها تجاه العواقب البيئية و الاجتماعية والاقتصادية الوخيمة لأنشطتها التجارية، كجزء من عملية الضغط المتنامي من أجل تحسين نظام الحكم الديمقراطي و تأكيد احترام كرامة الإنسان وحقوقه و الحرص على سلامة بيئته عبر العالم. 

و بنما اجتهد منظرو المجتمع المدني من الأمريكيين في حشد الدلائل المختلفة على صحة العلاقة بين المجتمع المدني و الديمقراطية، و ساقوا العديد من الحجج المقنعة على مساهمة المنظمات و الفعاليات المدنية النشطة في سياسة نشر و توطين الديمقراطية في بلدان العالم النامي، و ما سيؤدي إليه ذلك من تقدم و ازدهار لشعوب تلك البلدان، برزت بإلحاح إشكالية "الاستثناء" العربي، فهل حقا يمثل العالم العربي الإسلامي "استثناء" من الديمقراطية؟

المجتمع المدني .. و النموذج الثلاثي للتنمية
تطرح إشكالية المجتمع المدني و الديمقراطية في العالم العربي من الأسئلة أكثر مما تعطي من الأجوبة. فبينما يفترض أن دور المجتمع المدني هو قبل شيء أن يكون صمام أمان لكبح جماح الدولة و جموح السوق كليهما عن الهيمنة على المصالح الحيوية للمجتمع ضمن النموذج الثلاثي للتنمية الذي تشكل أضلاعه الدولة و السوق و المجتمع المدني، نجده ظل يشكل دوما الحلقة الأضعف في ذلك النموذج. و بينما يشير مفهوم المجتمع المدني إلى كيان مستقل عن الدولة و عن السوق، نجد في الحقيقةً أنّ العلاقات بين تلك الأطراف هي جد متداخلة و مشوشة في العالم العربي. و بينما يشكل المجتمع المدني منبرا فعالا لمجابهة و تحدي رؤى مختلفة و مشاريع كونية متصارعة، نجده في الوقت ذاته موضوعا للتحدي و ساحة للصراع و المجابهة بين أطراف عديدة.

قبل سنوات، افترضت مدرسة الممولين صحة علاقة غير مبرهن عليها أصلا بين الديمقراطية و المجتمع المدني، بينما أُعير اهتمام أقل لتحليل طبيعة العلاقة بين المجتمع المدني و السوق. و اتجه الخطاب إلى إضاءة التوترات القائمة بين المجتمع المدني و الدولة من جهة وبين السوق و الدولة من جهةٍ أخرى، بينما فُهِمَت ضمنياً العلاقة بين المجتمع المدني و السوق على أنها منسجمة بل و متكاملة إلى أن استيقظ العالم على وقع حركة "البروليتاريا الجديدة" المضادة للعولمة  (Alter mondialisme) التي استطاعت إفشال قمة التجارة العالمية في "سياتل" بالولايات المتحدة الأمريكية في ديسمبر سنة 1999 ، فقرر الإتحاد الأوروبي - و لأول مرة في تاريخ التعاون الدولي المتعدد الأطراف- أن يفرض الاعتراف بالمجتمع المدني – الذي سماه بالفاعلين غير الحكوميين- كشريك فاعل في التنمية من خلال اتفاق "كوتونو" للشراكة(Cotonou Accord de partenariat de) ، الموقع سنة 2000 بين دول مجموعة الـ 77 (دول إفريقيا والبحر الكاريبي والمحيط الهادئ) والاتحاد الأوروبي.

في العالم العربي، سعى الغرب و هيآته الممولة بشكل خاص إلى دعم إنشاء و تفعيل هيآت المجتمع المدني أساسا في منطقة الشرق الأوسط و دول شمال إفريقيا إلى حد ما، كرافعة لنشر قيم الديمقراطية و حقوق الإنسان، من خلال التركيز على أجندات خاصة غالبا ما كانت مثيرة للجدل. لكن الغرب و هيآته الممولة تحاشت منطقة الخليج العربي – الغنية بموارد الطاقة- من هذا البرنامج لأسباب غير واضحة تماما.

اليوم يعود الحديث عن الديمقراطية و عن دور المجتمع العربي في "الانتقال" أو "التحول" إلى الديمقراطية بعد أن عصف الربيع بالمنطقة من خلال الاحتجاجات و الثورات في بلدان عديدة شملت الشرق الأوسط و شمال إفريقيا و منطقة الخليج العربي لأول مرة.

الديمقراطية: وهم أم خدعة؟
يقول آرسطو في كتابه "في السياسة" "De la politique" بأن من مزايا الديمقراطية أن يكون الفقراء ملوكا في بلدانهم لكونهم الأكثر عددا، حيث أن إرادة العدد الأكبر من الناس لها قوة القانون. لكن فقراء العالم العربي لم يستطيعوا حتى الاستفادة من هذه المزية النظرية المزعومة لتغيير واقع الاستبداد و لتحسين ظروف المشاركة السياسية في ممارسة الحكم و دمقرطة الحياة السياسية في غالبية بلدانهم. 

منذ الانطلاقة الأولى للديمقراطية من مدينة أثينا اليونانية (507 قبل الميلاد) و مرورا بالفاشية و النازية ، ثم صولا إلى سجون جوانتانامو(2001) و أبو غريب (2004) و فضائحهما اللااخلاقية و انتهاء بالرحلات السرية لطائرات وكالة الاستخبارات الأمريكية و اعتقالاتها التعسفية لبعض المواطنين الغربيين من أصول عربية وإسلامية، وحروب التدخل الأمريكي و الطائرات بدون طيار. عبر هذه المسيرة:
-         ما هو الشيء الجوهري في الديمقراطية المشترك بين الشعوب؟
-         هل يمكن اعتبار المسيرة التاريخية الطويلة للديمقراطية الغربية إرثا حضاريا إنسانيا مشتركا بين جميع شعوب العالم؟
-          لماذا يشكل العالم العربي الإسلامي استثناء بقي حتى الآن مستعصيا على التفاعل ايجابيا مع هذا الإرث العام المشترك؟!
ما هي العوامل الداخلية و الخارجية التي ميزت هذه المجتمعات و طبعت تطور ممارسة السلطة فيها على النحو الذي ما فتئ يسمح بإعادة إنتاج و تكريس طبائع الاستبداد في أنظمة الحكم مقابل استعداد الشعوب لتقبل القهر و الابتعاد عن روح التحرر و العصيان و الثورة في سبيل تغيير تلك العلاقات التسلطية؟
 
-         هل يوجد لدى هذه المجتمعات العربية الاسلامية نخب و مثقفون يؤمنون أصلا بالمجتمع المدني و يسعون لنشر القيم المدنية في نفوس المواطنين بكل ما أوتوا من قوة من خلال نشاط ثقافي وعلمي وسياسي و مهني منتظم؟
-         هل توجد نخب و مثقفون كرسوا جهدهم فقط من أجل الوصول إلى السلطة والمناصب العليا خدمة لمصالح فئوية ضيقة؟

في العالم العربي، نرى كل نخبة تصل إلى السلطة في هذه المنطقة من العالم، يكون همها الأول تقوية بنيتها السلطوية الذاتية (حزب، حركة، جماعة، حلف، الخ...) عبر توزيع المهام والسلطات و المنافع على أساس الزبونية و علاقات الولاء الضيقة، عوض الإلتفات إلى عامة الشعب و العمل على تنويره من خلال بناء المجتمع المدني الذي يمثل الدعامة الحقيقية لارتكاز العملية الإصلاحية و نشر و تثبيت ثقافة وقيم الحرية وحقوق الإنسان والعدالة و التضامن و التعاون والشراكة. 

كل ذلك أدى إلى تقويض أسس المجتمع المدني ودوره في تدبير المجال العام. لقد تم التلاعب بمفاهيم محورية مثل المواطنة والمصلحة العامة و التسامح والحرية والتعددية ضمن سياقات تعبوية مؤدلجة من أجل خلق هويات دلالية لمشاريع سياسية تدعي الاصلاح، بينما هي ترمي في أهدافها المبيتة إلى الوصول إلى السلطة ليس إلا.

هذا الانفصام والخلط و الازدواجية التي تعاني منها هذه النخب في تحديد الأهداف و وسائل تحقيقها قد أوصل الوعي المدني الجمعوي في هذه البلدان إلى أزمة ثقة حقيقة في جدية أي مشروع إصلاحي. و بدلا أن يتفاعل الجميع من أجل البناء و التنمية من خلال الاستفادة من التنوعات والاختلافات والتعدد كعوامل غنى من اجل بناء مجتمع مدني يتمتع بالحرية و الحيوية الضرورية لتحقيق التنمية المستدامة و العيش الكريم، تم توظيف التباينات المجتمعية المختلفة لتفكيك لحمة المجتمع و تفتيته طبقيا و أيديولوجيا ليظل مجتمعا فئويا متخلفا و ضعيفا. 

 يبدو أن هذه اللعبة قد أغرت أغلبية النخب الثقافية و الفكرية و السياسية و المهنية في هذه البلدان من مختلف المشارب و الأطياف. ففي الوقت الذي لا يستغل الدين عادة إلا في الظروف الصعبة، حيث يفتي أصحاب العمائم واللحى الحاكم المستبد بما يريد وقت ما يريد، فإن أصحاب الشوارب السوداء و ربطات العنق الملونة، هم كذلك، لا يترددون في تبرير رأي الحاكم المتسلط بالحجج القانونية العلمانية بغية اقصاء منافسين سياسيين آخرين من العلمانيين أو من غيرهم وإبعادهم عن الكعكة المغرية للسلطة. 

و إذا كان استغلال الدين في لعبة الحكم و السلطة قد بات أمرا مألوفا بالنظر إلى التعقيد التاريخي و المنهجي الذي اكتنف الصراع الفكري و السياسي على السلطة في التاريخ العربي الإسلامي على الرغم من المجهود المتميز الذي بذل في فترة العهد الراشدي (632 - 661 م) لتأسيس دولة مجسده للعقيدة والشريعة الإسلامية. إلا أن عدم نشوء أو تكون مؤسسات ثابتة أو إرساء تقاليد و قواعد وإجراءات مقننة و متعارف عليها، تضطلع بتنظيم عملية التداول السلمي للسلطة من منظور إسلامي بحت، قد أسهم في إبقاء الممارسات السياسية في العالم العربي والإسلامي، عبر التاريخ، خاضعة لحسابات واقعية أدت إلى تغلب المصالح الدنيوية المختلفة في عملية صراعية تاريخية جد معقدة و حساسة، دأب فيها الخصوم السياسيون على استغلال الإطار الديني عبر استخدام ممنهج لآليات التأويل و التفسير المؤدلج للنصوص الدينية الرئيسية من القرآن و السنة من أجل التغلب و الانفراد بالسلطة و إقصاء الآخر. و هو ما أتاح نشوء مجموعة نماذج شديدة التباين من الدول الإسلامية منذ ظهور الدولة الأموية (661 م) وصولا إلى دولة الخلافة العثمانية التي انتهت عمليا في عام 1909.

فهل فشل، بذلك، مشروع دولة العقيدة والشريعة و نجحت دولة الواقع؟ لتبقى العقيدة والشريعة شعلة تنير الدروب ويبقى التشبث بتجسيد العقيدة والشريعة ضمن دولة ما، عبارة عن حلم مشروع ما يزال يراود مشاعر غالبية المسلمين إلى حد الآن؟ 

إن ما يثير الاستغراب حقا هو أن لعبة الاستغلال هذه لم تقتصر على توظيف الدين من اجل السياسة، بل كرست استغلال بعض النخب في العالم العربي الإسلامي للعلمانية بغية تحقيق مآرب سياسية و لتبرير رأي الحاكم المستبد بالحجج العقلانية و الأدلة القانونية.



و هو ما جعل أحد المفكرين العرب المعاصرين يتساءل ضمن مقارنة طريفة بين علمانيي الشرق و الغرب: لماذا يعامل العلمانيون في الغرب مؤمني شعوبهم بكل نواقصها كأشياء ثمينة رائعة، بينما يتعامل علمانيو الشرق مع المسلمين الذين يشكلون الغالبية الساحقة لشعوبهم كـ "شيء يمكن التخلص منه"؟ بل لماذا يجد علمانيو العالم العربي الإسلامي في إدارة بوش ممثلاً للعلمانية الغربية، علماً أنها تتكون أساسا من أشد المسيحيين المحافظين الجدد تطرفا.

فضلا عن ذلك، لماذا يترك العلمانيون في العالم العربي مهمتهم التاريخية التي يفترض أنها تقتضى المشاركة الجدية في تأسيس ديمقراطية لصالح شعوبهم احتذاءً بما فعل العلمانيون الآخرون لشعوبهم في الغرب و في الهند و الصين و غيرها؟ ديمقراطية تجد فيها هذه الشعوب مكاناً أيضا لمعتقداتها الدينية الإسلامية. ديمقراطية تكون قابلة للحياة في المجتمع أولا، و من ثم التطور باتجاه ديمقراطية متكاملة بقدر ما يسمح به تطور فكر تلك الشعوب العربية والإسلامية في تفسيرها لنصوص الإسلام وفي اطمئنانها إلى أن الديمقراطية ضمان لحرية الفكر والمعتقد للجميع بلا استثناء، وأن هذه الحرية صديق لها وليست عدوا عليها التصدي له.

إن أكثر الدول عراقة في الديمقراطية لا تخلو من وجود أحزاب مسيحية كبيرة أو صغيرة تشارك في الممارسة السياسية الديمقراطية كما أن عملية استصدار القوانين و التشريعات في أغلبية البلدان الغربية تتعرض لضغوط شديدة بغية إخضاعها لمعايير تقييم مسيحية مثل المواضيع المتعلقة إصلاح التعليم والاستنساخ و مناهضة الإجهاض و الزواج بين المثليين، الخ...

أمريكا و الديمقراطية: اشارات استفهام لا حدود لها
اتذكر دائما كتابا لا يفارقني .. لرجل امريكي، أعتبره أحد أساتذتي الكبار... إنه كتاب "  Deterring Democracy "إعاقة الديموقراطية " .. ذلك هو شيخ الفلاسفة نعوم تشومسكي.. أطال الله بقاءه (عمره الآن 85 سنة).. اعرف جيدا أنهم ينظرون إليه في أمريكا كمنظر لمدرسة الفوضويين الجدد... لكنه.. يمثل بالنسبة لنا هنا.. الوجه الآخر لأمريكا.. الأقرب إلى الحقيقة.. و الصدق..

على طرف نقيض، قرأت كتاب مادلين ألبرايت:  "الجبروت و الجبار - تأملات في أمريكا وفي الله و  الشؤون الدولية"-  The Mighty & The Al-Mighty تقول فيه بالحرف: "عندما غادرت الحكومة في سنة 2001، عدت إلى التدريس الجامعي، عشقي القديم. وفي جامعة جورج تاون، أعلّم مقرراً واحداً في الفصل يتقلّب بين طلبة الدراسات العليا والطلبة غير المتخرجين. وفي بداية كل مقرر، أوضح لطلابي الغاية الرئيسية للسياسة الخارجية هي إقناع البلدان الأخرى بأن تفعل تماما  ما نريده نحن".

عن القضية الفلسطينية، كتبت: " لم نطلب الكثير من العرب، الذين لديهم مدن مقدسة أخرى وكثير من الأرض، بإفساح متّسع لشعب إسرائيل الصغير في المكان الوحيد الذي كان لديهم وطن حقيقي فيه".

أقول دائما لأصدقائي الغربيين: كيف؟ أنتم تُعلمون الناس الديمقراطية، و"حماس" انتخبت بكل ديمقراطية، والآن أصبحت حركة إرهابية! كذلك احمدي نجاد، و من قبله الراحل تشافيز،...كلهم انتخبوا بكل ديمقراطية... و قبل ذلك سكت الغرب على إلغاء نتائج الانتخابات الديمقراطية في الجزائر 1991 .. و حدث ما حدث.. إنها كارثة... هل هو فشل مطلق في حسن تقدير الأمور أم هي تكتيكات "الكلاديو".

نكتة: أقترح أحدهم أن توجد منظمة تسمى NRI، National Respect Institute ، و أن يسعى متطوعون من العالم النامي من خلالها لتعليم الأمريكيين أن يحترموا خيارات الشعوب الأخرى!

تكتيكات تسويق الديمقراطية في العالم العربي:
التفكير الاستراتيجي الغربي- في ما يتعلق بتكتيكات تسويق الديمقراطية في العالم العربي الإسلامي- يتوزع بين ثلاث اتجاهات:

- الاحتواء المزدوج (تعزيز الأنظمة الاستبدادية الصديقة مع ابتزازها بالتقصير في تطبيق الديمقراطية عند الحاجة)؛
- الجرح النازف (تغذية الصراعات و التناقضات الداخلية في كل بلد وترك الأمور تتفاقم ليتم استغلالها في الوقت المناسب)؛
- إعادة الاستعمار (تدبير الانقلابات و التدخل الإنساني و العسكري المباشر و غير المباشر).

سنة 2004، قرأت في "لوموند ديبلوماتيك" مقالا لكاتب برتغالي يسار مشهور، و قد حائز على جائزة نوبل للآداب لسنة 1998، يدعى "خوسيه ساراماجو" ، يتساءل فيه حول الديمقراطية على النحو التالي:

-         هل دخلت الديمقراطية - في ظل التحولات العالمية الجارية - مرحلة متقدمة من الإرتداد والنكوص ربما تؤدي إلى تراجع و تقهقر المقولة نفسها؟
-         هل حقا يمكن تصور أو توقع نجاح تجربة ديمقراطية بدون ديمقراطيين؟
هل سيظل إدراك التجربة الديمقراطية في العالم العربي الإسلامي منحصرا في نوع من الوعي الشقي المترنح بين نوازع الاحتفاظ بالحكم و ضرورات التعامل الحذر مع مقتضيات التغيير و الإصلاح ضمن سياقات محلية، إقليمية و دولية يستعصي استقراء ملامحها أو التكهن باتجاهاتها؟
-         هل سيتغير الجوهر الاستبدادي لأنظمة الحكم في هذه المنطقة؟ أم سيظل الاهتمام بالديمقراطية من طرف مختلف الفاعلين مجرد معطى متغير الأهداف و الأبعاد و القيمة؟

لقد أثر في كثيرا ذلك الموقف النقدي المتوهج الذي بلوره  المفكر البرتغالي اليساري الحائز على جائزة نوبل للأداب "خوسيه ساراماجو" في ذلك المقال التحفة، متسائلا كل مرة: هل الديمقراطية كأيديولوجيا مهيمنة هي ابنة غير شرعية لعلاقات القوة الجائرة بين أقطاب متعددة أكثر مما هي تكريس مثالي لفكر الفلاسفة الغربيين الأوائل؟

ألهمني ذلك المقال في نفس السنة 2004، فكتبت مقالا مطولا باللغة الفرنسية تحت عنوان "بعد التدخل الغربي: ماذا تبقى من الديمقراطية؟" أعدت فيه صياغة الأسئلة التي طرحها زميلنا "خوسيه ساراماجو" لكن ضمن الساق العربي الإسلامي.

بعد ذلك، قام - مشكورا- أخي و صديقي د. ديدي ولد السالك، بتعريب مقالي المذكور  و نشر على موقع "الدرب" لأول مرة تحت عنوان "بين الإسلام و الغرب: تهافت الديمقراطية؟" قبل أن يعاد نشره في عدة مجلات فكرية محكمة.

خبا نجم الديمقراطية التي أثارت زوبعة في العالم النامي مع سقوط المعسكر الاشتراكي و تنامي وعي عالمي حول التناقضات الكثيرة التي تعكس الهوة السحيقة بين الخطاب السياسي و الإعلامي الغربي حول الديمقراطية و بين الممارسة العملية في مجال العلاقات الدولية و التعاون الدولي، قبل أن يستيقظ العالم على وقع الثورات العربية التي كان لا بد أن نتساءل هل تمثل حلما أم كابوسا؟

ضرورة بناء موقف معرفي نقدي من الثورات:
كرست الأدبيات الثورية لدى معظم شعوب العالم أن القيام بثورة ما هو دائما عمل بطولي من الناحية الإنسانية، نظرا لما ينطوي عليه من مجازفة و تضحية في سبيل تحقيق المبادئ و خدمة الآخرين. و هو تقدير صحيح إلى حد كبير. لكن الثورة تعني كذلك مسؤولية أخلاقية كبيرة، يعتد فيها بالتداعيات و النتائج و ليس فقط بحسن النوايا و المقاصد.

كيف نفهم الثورات العربية منهجيا و نقديا؟ لا بد من نوع من المجازفة المعرفية المحسوبة من أجل مقاربة معرفية موضوعية لظاهرة الثورات العربية. و لعل من أصعب المهام في الوقت الراهن، أن يلتمس الباحث الموضوعي بناء موقف معرفي نقدي من الأحداث الجارية في سيق الربيع العربي، يكون مختلفا جذريا عن المواقف الأيديولوجية الكلاسيكية سواء بمجرد تأييد الظاهرة أو رفضها بالمطلق.

نطمح إلي مقاربة تسمح لنا بالتعامل المرن مع ظاهرة الثورات العربية الجارية قصد ضرورة فهمها أولا.. و من ثم، متابعتها بأخذ مسافات موضوعية منها، و تحليلها بأدوات إجرائية  تستلهم منهجية التحليل النقدي المستندة إلى حقل "ابستيمولوجيا" العلوم الإنسانية.

لماذا الاستعصاء العربي الإسلامي على الديمقراطية في هذه المنطقة من العالم الممتدة من انواكشوط غربا إلى جاكارتا شرقا؟

نماذج أو"كاتالوجات" الثورات العربية الجارية حاليا:
- تبقى الحالة التونسية الأكثر مرجعية و الأكثر وضوحا في الرؤية المستقبلية لمسار تطورها. و مع أنها كانت الأكثر سلمية و الأقل دموية، إلا أن تصدر الإسلاميين للمشهد بعد الانتخابات و ما رافقه من تراجع لدور شباب الإنترنت و مجموعات المدونين الذين كانوا هم الأبطال الحقيقيين للثورة التونسية،  يطرح الكثير من التساؤلات حول المستقبل:
- الحالة المصرية جد معقدة و حساسة؛
- الحالة اليمنية دخلت مرحلة انتقالية غير واضحة المعالم و المستقبل؛
- في ليبيا، أخذت الثورة مسارا مختلفا جذريا.. لم تعد سلمية .. سلمية كما في السابق.. العنف ولد العنف المضاد.. حمل الشعب السلاح .. و أصبح التدخل العسكري الدولي سقفا جديدا للثورات العربية.. اختلت الموازين..
ارتفعت فاتورة التكلفة المجتمعية و الإستراتيجية للتغيير المدني عن طريق الثورة إلى حدود قياسية..



العالم العربي بين حالة الثورة و اللاثورة:
في أغلبية البلدان العربية تتعدد عوامل النزوع للثورة على المستوى المجتمعي، و السياسي  والاقتصادي:
- ضعف المشاركة السياسية،
- ترهل منظومات وآليات السلطة،
 - تنامي التوتر و أزمات الثقة بين الطبقات،
- الصراع على الحكم بين النخب،
- تأثيرات المناخ الدولي بفعل الأزمات الاقتصادية و المالية المتشابكة،
- ضعف مستويات التنمية،
- تعثر خطط الإصلاحات الاقتصادية،
- غلاء المعيشة،
- استفحال البطالة،
-اتساع دائرة التهميش،
-  تراكم الإحباط ...

بالمقابل، نجد أيضا عدة عوامل أخرى قد لا تساعد على الثورة و لا تخدم آفاقها في الوقت الراهن على الأقل:
- الخوف من الانفلات الأمني،
- نشوب الفوضى و أعمال التخريب و النهب،
- الحروب الأهلية و الويلات و المجاعة،
- الخوف من التداعيات الجيوبوليتيكية للثورات،
- انفراط عقد الوحدة الوطنية السكانية و الترابية لبعض البلدان،
- الخوف من تقسيم البلاد،
- ارتفاع التكلفة المجتمعية و الإستراتيجية للتغيير المدني عن طريق الثورات إلى حدود قياسية.

يوجد حاليا جو عام من "المد ثوري" يسود المنطقة لا يمكن تجاهله، إضافة إلى الشرعية التي يولدها و التأثير السيكولوجي الذي يخلقه ذلك المد، خاصة في الأوساط الشبابية المندمجة بشكل كبير في التعاطي مع الثورات التي تحققت حتى الآن في بعض الأقطار العربية، عن طريق الإنترنت و شبكات التواصل الاجتماعي و الإعلام الجديد.  لكن، في الحقيقة ما يزال هذا المناخ الثوري العربي محلا للتساؤل و الاستفهام.  فالأمور حتى بعد عتبة "إسقاط الرئيس" تبقى في مرحلة انتقالية حرجة كما في تونس، و هي جد معقدة و حساسة كما في مصر، كما أنها جد مشوشة و مفتوحة على المجهول في ليبيا و اليمن. أما في البلدان التي لم  تصل الثورات فيها بعد إلى تلك المرحلة، فهي تعيش وضعية تراجيديا كارثية بالغة التعقيد و الحساسية كما في سوريا و إلى حد ما في البحرين، حيث لا يوازي مأساوية استمرار شلال الدم النازف إلا تعقيد المواقف و الحسابات الجيوستراتيجية الإقليمية و الدولية إزاء مصير الحالة الثورية، خاصة في سوريا.

هاجس التخوف من المساعدات الخارجية:
إذا كنا متفقين على ضرورة التغيير السياسي في بلداننا العربية، لماذا إذا هذه النظرة المتوجسة للمساعدات الخارجية؟
هل نتوقع من المضطهدين، الذين يعيشون أوضاعاً مأساوية في بعض الدول العربية، غير الترحيب بالتدخلات والمبادرات؟

في ابريل سنة 2007: أصدرت في المركز وثيقة استشرافية تحت عنوان: "رؤية موريتانيا 2020 مشروع دراسة استشرافية"
كتبتها تحت شعار عريض: "اصنع مستقبلك بنفسك قبل أن يصنعه لك الآخرون"...
ركزت فيها هلى بلورة هناك ثلاث أفكار أساسية بدأت آنذاك تتسم بنوع من الإجماع حولها في العالم العربي و هي:

1.      أن التناوب السلمي على السلطة و إجراء التغيير و الإصلاح أمور ضرورية، و إذا ما أريد لها النجاح و الديمومة، فينبغي أن تتم من الداخل؛
2.      أن المجتمع المدني (بما في ذلك المنظمات غير الحكومية و الجمعيات الأهلية، و النقابات والأحزاب السياسية و هيآت المنتخبين و الصحافة الحرة، إلخ...) شريك فعال في تحقيق الأهداف الإستراتيجية للتغيير و الإصلاح المتمثلة حاليا في إنجاح التحول نحو الديمقراطية و تحقيق التنمية المستدامة و تأمين المستقبل. و المجتمع المدني بهذا المعنى ليس خصما أو بديلا عن الدولة و مؤسساتها الحكومية بل هو جزء من الدولة و شريك و مساعد فعال للحكومة؛
3.      أن الطريق الأمثل و الأكثر أمانا نحو التغيير و الإصلاح، يقتضي التركيز على بناء السياسات و البرامج و المشاريع الإصلاحية و التنموية العمومية على  أساس متين من المعطيات العلمية الموضوعية المتأتية من ثمار البحث العلمي الرصين بدلا عن مصادر إخبار أخرى  مشوشة بالخصومات السياسوية و صراعات المصالح و المضاربات المغرضة.

على كل واحد منا أن يسال نفسه كل مرة:
-         هل كلنا متفقون أساساً على ضرورة التغيير؟! هل أنا شخصياً واحد من المتفقين؟!
-         هل يمكن -إنطلاقا من وعي عميق بجدلية الترابط بين هذه الأفكار الأساسية الثلاث- أن نرصد تطور أخذ الوعي و تنامي الخبرات في هذا المجال لدى منظمات المجتمع المدني في العالم العربي و في موريتانيا في ما يخص الانتقال الديمقراطي؟

نموذج المعهد الديمقراطي القومي للشؤون الخارجية NDI :
هو احد اربعة مؤسسات تابعة لمنحة الديمقراطية ك NEDكمظلة جامعة. المنحة هي مؤسسة انشئت سنة 1983 و هي غير ربحية، هدفها دعم المؤسسات الديمقراطية حول العالم من خلال الجهود غير الحكومية . ويرأسها مجلس ادارة مستقل ، ويخصص لها الكونغرس تمويلا سنويا، تقوم هي بدورها بتقديمها بشكل منح لمجموعة من المؤسسات التي تعنى بنشر الديمقراطية .

المؤسسات الاخرى المشابهة هي :
-         المعهد الجمهوري الدولي IRI– ويعمل نفس عمل المعهد الديمقراطي لكن من منطلق رؤية  الحزب الجمهوري؛
-         مركز المشاريع الخاصة الدولية CIPE ويدعم الديمقراطية حول العالم بواسطة المشاريع الخاصة وإصلاحات السوق الحرة. ومجالات عمله الرئيسية هي مؤسسات مقاومة للفساد والشركات و ادارة الشركات و ادارة الديمقراطية والوصول الى المعلومات والقطاع غير الرسمي وحقوق الملكية والنساء والشباب؛
-         مركز التضامن Solidarity– وهي مؤسسة غير ربحية تساعد عمال العالم الذين يكافحون لبناء اتحادات ديمقراطية ومستقلة، حتى من خلال اضعاف الاتحادات القائمة وشقها وتقسيمها. يعمل مع الاتحادات والمجتمع المدني لتحقيق تطور ديمقراطي مستمر وعادل ولمساعدة الرجال والنساء على تحسين حياتهم ومعايير العمل.

بعد احتلال العراق، استلم المعهدان الديمقراطي و الجمهوري مبلغ 90 مليون دولار من مؤسسة المنحة القومية للديمقراطية NED لتعليم العراقيين كيف ومن ينتخبون . و لكل واحد منكم الحق في تقدير النتائج و الأثر الحاصل في العراق.. أنصحكم أن تستعينوا فقط بشهادة الميستر ألان اينشتاين، وهو أحد مؤسسي NED مع مطلع الثمانينات في فترة الرئيس ريغان، الذي أوضح سنة  1991 في مقابلة لواشنطون بوست: بأن الكثير من الأنشطة العلنية لـ NED  لا تختلف عن ما كانت تقوم به سرا وكالة المخابرات المركزية منذ 25 سنة .

المجتمع المدني و الديمقراطية:
اليوم أصبح المجتمع المدني يشكل فضاء متمددا أكثر فأكثر ليشمل مجموعات جد مختلفة و ذات أهداف متباينة. و بينما تستخدم الرأسمالية العالمية و المحلية المسيطرة على السوق بعض منظمات المجتمع المدني لتحمي مصالحها ليس فقط في وجه الدولة لكن أيضاً في وجه الحركات العمالية و أنصار البيئة و مناهضي الرأسمالية المتوحشة، تسعى منظمات غير حكومية أخرى لتأمين الرعاية الاجتماعية و النهوض بالتنمية المحلية لتأمين بعض الخدمات و تلبية بعض حاجاتٍ الفقراء و الضعفاء و المهمشين و المساهمة في تطوير الاستجابات للمشاكل الاجتماعية المطروحة على المجتمعات الحديثة.

كما أن جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان و الاتحادات المهنية و تكتلات المنتجين والنقابات والجمعيات النسوية و جمعيات الرفق بالحيوان و أنصار البيئة و علماء الدين، تريد جميعها من المجتمع المدني أن يواجه جبروت الرأسمال العالمي و أن يقدمَ تصوراً لطرق و حلول بديلة لتنظيم الحياة الاجتماعية و الاقتصادية أكثر ملائمة و أكثر أنسنة لهذا الواقع المتجهم الذي يعيشه العالم.

معيار غير الربحية الذي يميز المجتمع المدني كفضاء منفصل نظريا عن السوق هو نفسه ما يهبط به إلى قاع الأنشطة الاقتصادية. و هكذا فإنّ القطاع الربحي الذي هو السوقٌ و القطاع غير الربحي الذي هو المجتمع المدني، ليسا سوى وجهين لعملةٍ واحدة هي الاقتصاد. إنّ القطاع غير الربحي يعمل كفضاء لنشاطاتٍ اقتصادية مختلفة تولد نتائج مفيدة بأشكال متعددة مثل إنشاء و تسيير البني التحتية كالمدارس و الجامعات و المشافي، أو توفير خدمات فكرية مثل انجاز الاستشارات و الخبرات الضرورية لمواكبة و تأطير المجتمعات المحلية في إطار تنفيذ المشاريع و الأنشطة الصغيرة، إلخ...، و العملية برمتها تؤمن دخلاً و وظائف و تؤسس تجربة و تراكم خبرة و تخلق قيمة مضافة للناتج القومي الإجمالي لكل بلد كما تفيد المجتمع برمته. و تشير آخر دراسةٍ مقارنة نشرت حول القطاع غير الربحي في 22 بلداً أنه يمثل قوة اقتصادية كبيرة، حيث يوظف هذا القطاع 19 مليون عاملٍ بدوامٍ كامل، بما يعادل قرابة 70% من الوظائف المدفوعة في غرب أوروبا و 22% في أمريكا اللاتينية. 

إن إشكالية الاتصال أو الانفصال بين المجتمع المدني و السوق تستحق التأمل فيها جديا. ففيما يؤمن السوق قاعدته المالية من خلال ربحية التراكم الرأسمالي و تؤمن الدولة دخلها من الضرائب و من ريع ممتلكاتها، فإن المجتمع المدني ليس له مصدر ثروة واضح. فهو إن عُرّف على أنه غير حكومي يجب أن يكون مستقلاً مادياً عن الدولة و إن قيل بأنه غير ربحي فيجب أن لا يراكم رأسمال. 

إن اعتماد المجتمع المدني في البلاد النامية على المساعدة و على الخارج تؤدي إلى تشويه جداول أعمال المنظمات غير الحكومية المحلية، التي أصبحت تتنافس على التمويلات و تصوغ برامجها و نشاطاتها حسب أولويات الممولين. إنّ وصول الممولين مع تصوراتٍ مسبقة في حقائبهم عن ما يجب أن يفعله المجتمع المدني و عن ما يجب أن يكون عليه، في بلدان لا تزال منظماتها الأهلية في وضعية بالغة الهشاشة، سينتهي بإضعاف قدرة هذه المنظمات المحلية على تطوير رؤيتها الذاتية للمجتمع في بلدانها، و بالتالي، إضعاف مساهمتها في تصور كيفية إنجاز تغيير سياسي و اجتماعي و كذا في إيجاد الحلول المناسبة للمشاكل المطروحة على بلدانها. 

مفكرو التنمية الأوروبيون ـ و هم أصحاب خلفية تاريخٍية وثقافية مختلفة ـ فلهم تصور آخر حول الأدوار المنوطة بالدولة و بهيئات المجتمع المدني و علاقاتهما بالسوق. و هو تصور يأخذ بعين الاعتبار الدور السياسي التاريخي "للمانيفاكتورات" التجارية و الكنائس و الهيئات الخيرية في النضال من أجل الديمقراطية و إصلاح الدولة في أنحاء مختلفة من العالم. و يرى الممولون الأوروبيون في منظمات المجتمع المدني -و ما تقوم به من عمل سياسي لإصلاح الدولة من الداخل- إمكانية إعادة إنتاج الدور ذاته من جديد. 

في العالم النامي، أسهمت خلفية ميلاد مجتمع مدني مبني بشكل أساسي من الخارج و ليس من الداخل في استمرار الالتباس الذي يكتنف دقة هذا المفهوم من الناحية النظرية و كذا عدم وضوح الحدود الفاصلة بين مكونات النموذج الثلاثي للتنمية الذي يشكل المجتمع المدني أحد أضلاعه إلى جانب الدولة و السوق.

المجتمع المدني في العالم العربي؟
في 2007، و بمناسبة انعقاد أيام التشاور الوطني حول إصلاح المجتمع المدني في موريتانيا في 25- 27 دجمبر/كانون الأول سنة 2007،  كان السؤال الجوهري الذي طرح نفسه آنذاك على كل مراجعة نقدية للنموذج الثلاثي للتنمية الذي تشكله الدولة و المجتمع المدني و السوق ـ هو هل سيكون المجتمع المدني الناشئ ـ الذي هو أحد مرتكزات هذا النموذج في بلادنا ـ قادرا في المستقبل القريب على رفع التحديات الكبرى التي تواجهه ليصبح شريكا ايجابيا في إطار عملية شاملة للانتقال نحو الديمقراطية والتنمية المستدامة يتم التشاور حولها بين مختلف الفاعلين في الساحة الوطنية؟

أم على العكس من ذلك، سيظل قدر المجتمع المدني أن يبقى كيانا هامشيا و مهمشا، ضعيفا ـ بسبب أزمة هويته الذاتية و انعدام الرؤية الواضحة لدوره ـ و متشرذما بسبب الانقسامات الضيقة والصراعات الداخلية و معتمدا أكثر مما ينبغي على الحكومة و/ أو على الممولين؟ و بالتالي، يبقى عاجزا عن تحمل مسؤولياته بصورة مستقلة و فعالة تجاه المصالح الوطنية للمجتمع الموريتاني.

تاريخياً، كان ظهور المجتمع المدني في الغرب ردة فعل على انحلال الروابط التقليدية للتضامن الاجتماعي و بروز أشكال جديدة من الاندماج في سياق التحديث الرأسمالي للمجتمع و الدولة. أما في نهاية سبعينيات القرن العشرين فقد تطورت مطالب المجتمع المدني لتتزامن مع الضغوط الليبرالية المتزايدة للتحول من تخطيط الدولة إلى بدائل السوق الحرة، مبشرة بأن الحرية الاقتصادية و الحرية السياسية متلازمتان. و هكذا ظهر المجتمع المدني أولا من خلال منطق سياسي لا من خلال منطق السوق. 

أما في بلدان العالم النامي و دول أفريقيا جنوب الصحراء خاصة، فإن تضافر عوامل عديدة مثل هشاشة بنية الدولة الوطنية و اعتمادها الشديد على المساعدات المالية و الفنية الخارجية و ضعف البرجوازيات المحلية في العديد من هذه الأقطار، بالإضافة إلى انتشار الفقر و تدني دخل الفرد، قد أدى إلى تعاظم دور و تأثير الجهات المانحة أو الممولين في عملية إنشاء و تعهد قطاع المجتمع المدني في مراحل متأخرة بعد الاستقلال.

ولد المجتمع المدني في أغلبية هذه الدول عبر عملية قيصرية لينتشر كالفطريات فيما بعد، فتصبح المنظمات غير الحكومية تعتمد بشكلٍ كبير ـ تماما مثل الحكومات المحلية ـ على التمويل الخارجي لبرامجها و أنشطتها المختلفة. و في أحيان كثيرة، تتنافس الدولة مع الممولين على تشكيل المجتمع المدني و التحكم فيه متذرعة بأن المجتمع المدني قد يشكل معول هدم ضد الدولة أو أداة خفية لتعزيز السياسات التدخلية لجهات التمويل.

مقارباتٍ الديمقراطية وعلاقتها بالمجتمع المدني:
-         المقاربة الأمريكية ترى أن مهمة المجتمع المدني هي توطيد الاستقرار و بناء أو تقوية المؤسسات الديمقراطية التي تحمي قواعد القانون و شرعية المعارضة السلمية و حقها في التعبير بوسائل مقبولة. إنها مقاربة ترى بأن الاستقرار السياسي مهمٌ كالحرية السياسية و لكن الحماية من الدولة و تجاوزات الحكومة أهم. إنها مقاربة تحافظ على الحرية السلبية، فتدافع عن الفرد ضد الجماعة و تربط فيما بين مطالب و مصالح من الممكن الدفاع و التفاوض عليها، و هي تعتقد بأنها تحافظ ـ من هذا المنظور ـ على جوهر الثقافة المدنية. 

- المقاربة الأوروبية حول المجتمع المدني فهي تستند إلى تقليد ثقافي عريق ذي مضمون راديكالي يتميز عن المفهوم الأمريكي للديمقراطية و المجتمع المدني. إنها مقاربة تستند إلى ثلاثة مبادئ هي البحث عن "الخير الجماعي" و السعي وراء تحرر و انعتاق الإنسان و القدرة على توليد النقاش النقدي. إنها رؤية تجعل من المجتمع المدني ميدانا رحبا لنقاش و تحدي الأفكار السائدة عن التقدم و التطور عبر المشاركة الفعالة في مجالات سياسية غير رسمية لتقرير أي أشكال التقدم و التنمية يجب الأخذ به عندما يتجدد النقاش حول الطريقة التي تتفاعل بها الدولة و المجتمع و حول دور الدولة، و من هو الذي يحدد هذا الدور و كيف؟ و ضمن هذه المقاربة الأوروبية، يعالج المنظرون للمجتمع المدني حاليا الطريقة التي يصطدم فيها عدم المساواة الاجتماعية و السياسية مع الممارسة الكاملة للمواطنة، حيث تتمكن التعددية غالباً من المحافظة على مصالح معينةٍ على حساب المصلحة العامة أو المشتركة عندما تخفي مصدر القوة الحقيقي و تخلق أوهاماً حول المشاركة السياسية و دور الدولة.

-         الأدبيات الفكرية لليسار: تقلل من أهمية المجتمع المدني باعتباره ساحة "طبقية" تسيطر عليها المصالح الاقتصادية القوية و مجموعات الضغط المتنفذة. لكن في نهاية المطاف، تجاوز اليسار عموما سلبيته تجاه فكرة المجتمع المدني في نهاية القرن العشرين و تم الاعتراف بأهمية نشاط الجماعات المستقلة بوصفه يشكل بحق مساهمة نوعية في ديناميكية التغيير السياسي و الاجتماعي. لقد تكرس المجتمع المدني بصفته مصدراً ثريا لإعادة إنتاج فضاءٍ سياسيٍ حيوي يناقش المصلحة العامة بدون قمع للتعددية و الاختلاف، مشكلا بذلك آلية للتفكير البنّاء حول الدولة و التنمية و ملهما أساسيا في نقد نمط التنمية الرأسمالية المتوحشة وفظائع الآثار السلبية للعولمة الجامحة. 

حدود المقاربة الأمريكية:
تجاهل متعهدو  الديمقراطية الأمريكية، الذين بذلوا جهوداً مضنية لفهم المجتمع المدني في شروطه المعقدة ضمن المجتمعات التقليدية في أفريقيا و آسيا و الشرق الأوسط، بشكلٍ أساسي، المكونات المختلفة للأنسجة المجتمعية المكونة له في لتلك البلدان. تلك المكونات التي تتشكل أساسا من قبائل و طوائف و جمعياتٍ قروية و جماعاتٍ فلاحية و مهنية و منظمات دينية محلية و جمعيات أثنية، إلخ ... ، يصعب فهمها ضمن المقاربة الأمريكية لأنها ـ ببساطة ـ لا تنخرط مباشرةً في النشاط المؤيد لنشر الديمقراطية، بينما تهيمن على الصعيد الوطني حفنة من المنظمات غير الحكومية ـ المتشكلة على النمط الغربي ـ منتدبة نفسها للدفاع عن المصالح العامة في تلك البلدان. 

إن إدراك وجود مثل هذه الفوارق داخل قطاع المجتمع المدني ذاته، إضافة إلى تعدد الحواجز أمام كل داخل جديد إليه، يجعل من المجتمع المدني مجالا مغلقا تماماً مثل الدولة و مثل السوق (الاقتصاد). و في ظل انعدام عدالة ميزان القوى الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، يتعذر ضمان المساواة في تكوين الجمعيات و المنظمات غير الحكومية و المشاركة في المجتمع المدني و النشاط السياسي. كيف يمكن للفقراء و المهمشين أن يجدوا أصواتا لهم في المجتمع المدني؟ و كيف يمكن تمويل الجمعيات و أنشطتها و حملاتها عندما تكون المصادر المالية المحلية شحيحة و غير شفافة؟ فالمصادر العمومية تسيطر عليها الدولة و المصادر الخصوصية تسيطر عليها رأسمالية الشركات و الجماعات الاجتماعية المتنفذة؟ عندها، لا يبقى أمام منظمات المجتمع المدني من خيار سوى التدافع أمام شبابيك هيآت التمويل الأجنبية لمنافسة الحكومة في الحصول على بعض المصادر الزهيدة التي تعمق الشرخ داخل جسم المجتمع المدني و تزيد من انقساماته الداخلية و تغذي الشعور بالإحباط بين مكوناته و هوامشه. 

و فيما حظيت استقلالية المجتمع المدني عن الدولة باهتمامٍ واسعٍ في أدبيات التنمية، فإنّ استقلاليته عن السوق من الناحيتين النظرية و التطبيقية كانت مفترضةً أكثر من كونها مبرهناً عليها، رغم استمرار النقاش فيما إذا كان من الأفضل إدخال السوق ضمن المجتمع المدني أو إخراجها منه. أو بمعنى آخر هل تشكل الشركات جزءً من المجتمع المدني أم لا؟

إن الواقع التجريبي يكشف بوضوح اعتماد المجتمع المدني ماليا ليس فقط على اشتراكات المنتسبين و رسوم الخدمات التي يؤديها و إنما على الدولة و بدرجةٍ أقل على الأعمال الخيرية. و بما أن القطاع غير الربحي هو فضاءٌ لنشاط اقتصادي يولد دخله من جهة، و هو من جهةٍ أخرى قاعدةٌ مادية مرتبطة بالدولة و بالسوق، فإنه عمليا يشوش مفهوم وضوح الحدود في النموذج الثلاثي للمجتمع المدني و السوق و الدولة. نظريا المجتمع المدني هو شيءٌ و عمليا هو شيءٌ آخر. المجتمع المدني كيان مستقلٌ لكونه يحمل منطقه الخاص، لكنه أيضاً مشتقٌ و تابع لغيره. إن حدة هذه الظاهرة تبرز بشكل خاص في سياق الدول الفقيرة ـ مثل بلادنا ـ التي تعتمد غالبا على المساعدات الخارجية، حيث توفر تمويلات الجهات المانحة دخلاً رئيسيا للناشطين في منظمات المجتمع المدني تماما كما تشكل مصدرا سخيا للمشاريع و الهيآت الحكومية في ذات الوقت. 

المجتمع المدني في موريتانيا:
في موريتانيا، تعتبر المجتمع المدني ناشئا، و هو يمر الآن بمرحلة حساسة في تاريخ تطوره، تجعله يقف على مفترق طرق حاسم. فبقدر ما تتيح له التحولات السياسية الجارية في البلاد و في المنطقة و العالم - مثل مقاربات الشراكة الجديدة في مجال نشر الديمقراطية و الحكم الرشيد وتفعيل التنمية التشاركية -  فرصا مؤاتية قد تسمح بإشراكه في اتخاذ القرارات لصياغة و تنفيذ التنمية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للبلد، فإنها تطرح عليه ـ في الوقت ذاته ـ إكراهات إضافية و تطالبه بضرورة مباشرة إصلاح ذاته نحو إعادة تأسيس مجتمع مدني حقيقي كشرط مسبق لا غنى عنه لولوج مرحلة المشاركة الكاملة. 

و لأول مرة في تاريخ التعاون الدولي المتعدد الأطراف، نجح اتفاق "كوتونو" للشراكة(Cotonou Accord de partenariat de) ، الموقع سنة 2000 بين دول مجموعة الـ 77 (دول إفريقيا والبحر الكاريبي والمحيط الهادئ) ، من جهة والاتحاد الأوروبي من جهة ثانية، في إرساء مبدأ الشراكة ـ من الناحية القانونية ـ كحق ثابت بين الدولة من جهة و "الأطراف الفاعلة غير الدولتية" (acteurs non étatiques)، بما في ذلك منظمات المجتمع المدني من جهة أخرى. 

و هكذا، نزل ذلك الاعتراف القانوني بحق مشاركة المجتمع المدني في المجال العمومي كجلمود صخر في بركة آسنة مليئة بالتوجس و التردد و الاستسلام للضغوط الداخلية والخارجية التي طالما طبعت المواقف الرسمية في البلدان النامية تجاه فكرة إعادة الاعتبار للمجتمع المدني، أحرى إشراكه في صياغة و تنفيذ و مراقبة السياسات العمومية. أما بعد اتفاق كوتونو، فقد شكل التزام الدول الموقعة عليه ـ بإشراك فعلي للمجتمع المدني داخل كل بلد، في عملية صنع القرار في السياسات الوطنية و الحوار السياسي والحكم الرشيد و كذا كل القضايا المتصلة بالتنمية المستدامة ـ تطورا نوعيا و مكسبا قانونيا ثمينا لا رجعة فيه. 

الدولة الموريتانية ـ التي سبق أن صادقت من قبل على اتفاق كوتونو بموجب القانون رقم 2001-02 بتاريخ25 يناير/كانون الثاني 2001 وبموجب المرسوم رقم 037-2001 بتاريخ 03 فبراير/ شباط 2001 ـ قامت من أجل الوفاء بتعهداتها بإدراج مكونة لدعم إصلاح المجتمع المدني وتعزيز قدراته تم تضمينها في البرنامج الإرشادي الوطني (PIN) 2001-2007 لموريتانيا في إطار التعاون مع اللجنة الأوروبية، بهدف توطيد الديمقراطية وسيادة القانون ومساعدة المجتمع المدني ليصبح شريكا حقيقيا في الحياة الوطنية والتنمية الاجتماعية الاقتصادية والسياسية للبلد. 

و بما أن اتفاق كوتونو يمثل ابتكارا جديدا، فهو يكتسي أهمية خاصة في مجال رصد استراتيجيات السياسات الإنمائية و تأثيراتها على التحولات الاجتماعية و السياسية في حقل الشراكة متعددة الأطراف، بالإضافة إلى كونه يمثل اجتهادا قانونيا و مؤسسيا ربما يكون مفيدا في تسريع عملية تكوين ونضج المجتمع المدني في هذا البلد و تمكينه من الاضطلاع بلعب دوره المطلوب عبر آليات و صيغ إجرائية عملية و شفافة لعله يكون في أمس الحاجة إليها في الوقت الراهن.

-         إلى أي حد يمكن للتوجه السياسي القوى لهذا الاتفاق أن يسهم ـ في ما يخص بلادنا ـ في تحقيق أهداف التنمية المستدامة بعد مرور 12 سنة على تاريخ توقيعه و المصادقة عليه من طرف بلادنا ؟
-         هل نجح الاتفاق فعليا في توسيع فضاء الشراكة من أجل التنمية في بلادنا بتشجيع الحوار والتعاون بين الدولة و الأطراف غير "الحكومية" كالمجتمع المدني و السوق بوصفها باحثة عن نفس الأهداف التنموية؟
-          و ما هي المعوقات التي تقف في طريق تنفيذه على أرض الواقع في موريتانيا؟ 
-         إذا كان اتفاق كوتونو يتخذ مقولة الحد من الفقر كهدف رئيسي، فإلى أي مدى تتيح أبعاده المختلفة ـ بما في ذلك موضوع الشراكات الاقتصادية و التجارية خاصة ـ فرصا جدية لتعزيز مكافحة الفقر وتحقيق الالتزامات الدولية الأخرى كالأهداف التنموية للألفية على وجه الخصوص؟ 
-         إلى أي مدى يمكن للإرادة السياسية في موريتانيا أن تواكب هذا النهج العالمي الساعي لإعادة الاعتبار للمجتمع المدني كشريك في صياغة وتنفيذ السياسات الوطنية بشأن القضايا الإنمائية الرئيسية: توطيد الاستقرار، محاربة الفقر، تحقيق الديمقراطية والحكم الرشيد، تعزيز حقوق الإنسان؟ 
-         كيف يمكن أن تترجم تلك الإرادة في عمل منهجي منظم و شفاف يسعى إلى إضفاء الطابع المؤسسي على شراكة بناءة و متوازنة بين الدولة و المجتمع المدني في موريتانيا؟ ويعمل على تجاوز السلبية المتبادلة و لعبة الاستخدام المزدوج السياسي و الإستخباراتي من طرف الدولة للمجتمع المدني كحلقة أضعف؟ 

لذلك، يجب التنويه إلى أن أي خطوة جدية في هذا الاتجاه لا بد أن تراعي الاعتبارات التالية: (ا) إعادة رسم و تحديد الأدوار بين الدولة والمجتمع المدني عبر إطار قانوني و مؤسسي واضح و منسجم، (ب) بناء الثقة على أسس واضحة تقوم على مبادئ العقلانية والقانون، (ج) منح المجتمع المدني مساحة من الحرية والاستقلالية الحقيقية كمجال حيوي واضح المعالم للحركة، (د) وضع آليات مؤسسية متماسكة للحوار والتعاون على مستويات مختلفة بين الدولة والمجتمع المدني، (هـ) التسليم بمبدأ دور المواطن في المتابعة و المساءلة (principe de suivi citoyen) كحق ثابت من حقوق المواطنة و تنظيم و تقنين الصيغ الإجرائية لممارسة هذا الحق تجاه النشاط العمومي للدولة. 

أما بالنسبة لموقف الجهات المانحة أو شركاء التنمية أو الممولين من موضوع إصلاح المجتمع المدني، فإن الأمر يتطلب جهدا نوعيا خاصا من طرفهم من أجل إعادة تقييم صحة و صلاحية (pertinence) التزامهم واستراتيجياتهم في التدخل، و طرق التحالف والتعاون المتبعة مع مختلف شرائح المجتمع المدني. إن عملية النقد والتقييم الذاتي من منظور الآخر هذه ينبغي أن تتم بصورة تشاركية و أن تستهدف تحقيق جملة من الأمور الضرورية : (ا) تجاوز المقاربات و المناهج الاختزالية التقليدية لمقولة "المساعدة الإنمائية" (l’aide au développement)، (ب) تسهيل ظهور و مواكبة و توطيد مجتمع مدني منظم و منفتح يتمتع بالمصداقية و قادر على الاضطلاع بكامل الأدوار الجديدة المنوطة به في عملية التحول الديمقراطي و تحقيق التنمية المستدامة، (ج) المساعدة في بناء نماذج لشراكة خلاقه، مبتكرة وفاعلة بين الدولة والمجتمع المدني مع احترام الأدوار والخصوصيات و المصالح المشروعة لكل من الأطراف المعنية. 

اتفاقية كوتونو للشراكة و إعادة تأهيل المجتمع المدني في موريتانيا:
يتنزل اتفاق كوتونو للشراكة، الذي صادقت عليه الحكومة الموريتانية منذ سنة 2001، في سياق دولي، إقيميو محلي متميز كما ذكر آنفا. و تأخذ خيارت دعم المجتمع المدني عدة أشكال تتضمن إنشاء برامج نوعية لتقوية المجتمع المدني تتعلق غالباً بموضوعات الديمقراطية و الحكم الرشيد و برامج تعزيز القدرات المؤسساتية و التنظيمية و الوظيفية لمنظمات المجتمع المدني، و كذا إطلاق شراكة بين منظمات المجتمع المدني و الحكومة و مؤسسات الأعمال بالإضافة إلى دعم الاستدامة المالية للمجتمع المدني عبر دعم مهنية منظماته المحلية. هذه المحاولات لتفعيل المجتمع المدني هي محاولات إبداعية تعد بفتح طرقٍ جديدة لإعادة التوازن ولإشراك مختلف الأصوات المهمشة من خلال تذليل التناقضات في العلاقة ما بين الدولة و المجتمع المدني و تشجيع أشكال تعاونية أكثر منها عدائية بين الطرفين تعزز خدمة المصلحة العامة. 

تجد النخب الموريتانية نفسها في أمس الحاجة للتفكير بصوت عالٍ حول إشكالية المجتمع المدني في بلادنا ليس باعتباره ذلك "الجنتلمان" أو الفتى الطيب في النموذج الثلاثي للتنمية، حيث انبثقت تلك الصورة أصلا من جدول أعمالٍ معادٍ لصميم فكرة الدولة، كما يتوجب أن يتجه النقاش نحو إضاءة مواضيع جوهرية مثل المجتمع المدني و قضايا الفقر و عدم المساواة في الصحة و التعليم و الشغل و تخلف الريف و تهيئة المجال الحضري و الأمن و السلم الاجتماعي، إلخ.... نحن بحاجة لتوسيع المناقشة ليس فقط ضمن محور المجتمع المدني مقابل الدولة فحسب، بل لنستكشف نقدياً و عن قرب طبيعة الروابط بين المجتمع المدني وقضايا النمو الرأسمالي اللامتكافئ في بلادنا و دور المجتمع المدني في تخفيض الفقر بشكل يتجاوز سطحية و غوغائية الملتقيات و الشعارات و اللافتات و صور التلفزيون في نشرة أنباء الثامنة مساء. 

و لا شك أن بلوغ مثل تلك الأهداف يتطلب إعادة النظر في دور الدولة في مجال التنمية وإعادة صياغة العلاقة فيما بين الدولة والمجتمع المدني في موريتانيا. و هنا بإمكان المجتمع المدني أن يوفر منهاجاً جديداً للتفكير في دولة التنمية. و ضمن هذا السياق الايجابي، لا يمكن إلا أن نتساءل كيف يمكن لجمهور واع و فعال يشارك في هذه الجلسات التفكيرية حول إصلاح المجتمع المدني أو يتابع أعمالها عن كثب إلا أن يدافع عن المواطنين في وجه الدولة و يشارك في التفكير و الجدال حول الصالح العام للمجتمع؟ لا بل، كيف يمكن للدولة الديمقراطية نفسها أن لا تلعب دوراً ايجابيا في هذه العملية؟ 

لا شك بأن تضافر الظروف الملائمة و الآليات المناسبة لإصلاح المجتمع المدني ينبغي أن يمر حتما بحصول نوع من التقارب و التفاهم العقلاني بين الأسر الثلاث التي تشكل الأطراف المعنية بملف الإصلاح و هي الحكومة والمجتمع المدني والشركاء في التنمية. و هي ظروف ما زالت ـ للأسف ـ تتسم بالضبابية و التوجس و التردد على الرغم من الجهود المبذولة حتى الآن. 

خاتمة: نحو تمكين المجتمع المدني
لا بد من أجل إصلاح و تمكين و استدامة المجتمع المدني الموريتاني من تعزيز استقلاليته كشرط أساسي لبناء شراكة جديدة مع الدولة و مع السوق. ويتطلب الأمر معالجة جذرية لخمس إشكاليات رئيسية هي : (ا) تحديد واضح لهوية المجتمع المدني في مقابل الآخر من خلال إصلاح الإطار القانوني و المؤسسي ، (ب) إعادة انتشار المجتمع المدني في مجاله الحيوي ضمن لامركزية حقيقية، (ج) التحرر من النزعة الأبوية للإدارة العمومية المهيمنة تقليديا على المجال المدني في البلاد، (د) توفير الحد الأدنى من الاستقلال المالي عبر آليات شفافة و متوازنة (هـ) اعتماد ميثاق شرف مدني و احترامه كمدونة أخلاقية لضبط السلوك المدني يجب التقيد بها من طرف جميع الفاعلين. 

وفي هذا الصدد، لا يزال من الضروري "إعادة هندسة" العلاقات و الروابط و الأدوار والمسؤوليات بين الدولة والمجتمع المدني و السوق على المستويات الهيكلية و التنظيمية و الوظيفية بغية ضمان التماسك و الانسجام و الفاعلية الضرورية لتحقيق الديمقراطية و التنمية المستدامة في موريتانيا و في العالم العربي. 

و سيكون من الجوهري ـ أولا و قبل كل شيء ـ أن يظل الفضاء الثقافي و الاجتماعي للمجتمع المدني مستقلا، حرا و مسؤولا، لكي يستطيع عامة الناس و خاصتهم في هذه البلاد أن يناقشوا بانفتاح و بروح نقدية الصالح العام و أن يجربوا البدائل الممكنة لتنظيم الحياة السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية دون خوف أو طمع. 

انواكشوط، 4 يناير 2014
محمد السالك ولد ابراهيم
باحث و خبير استشاري دولي،
مدير المركز الموريتاني لأبحاث التنمية و المستقبل

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

سيدي محمد ولد بوبكر: قراءة في طموح سياسي مثير؟

حتى وإن بَدَا متأخرًا ذلك الطموح السياسي الذي أبانَ عنه الوزير الأول الأسبق السيد سيدي محمد ولد بوبكر، من خلال الإعلان عن ترشحه للمنصب...