mardi 1 mai 2012

حرق كتب الفقه المالكي: تجديف و كفر أم ثورة ثقافية؟

أقدم  ناشطون من حركة "إيرا" المناهضة للعبودية في موريتانيا على حرق مجموعة من أمهات كتب الفقه المالكي المعتمدة في موريتانيا و عموم المغرب العربي مثل "موطأ" الإمام مالك و "مدونة" سحنون و"حاشية" الدسوقي و "ترتيب المدارك" للقاضي عياض و "الواضحة في السنن و الفقه" لابن حبيب  و "مختصر" خليل  و "مختصر" الأخضري و"رسالة" أبن أبي زيد القيرواني، إلى غير ذلك من المراجع الفقهية المعروفة. و قد شرح زعيم الحركة بأن هذا العمل الرمزي بالغ الدلالة إنما يدشن مرحلة جديدة من الاحتجاج على ما يعتبرونه  استمرارا غير مقبول لتراث فقهي بشري مستحكم  لطالما كرس العبودية و القهر و العنصرية و التفاوت الطبقي في موريتانيا منذ عدة قرون من خلال تأويل تعسفي للنصوص الدينية، خدمة لأهداف دنيوية سياسية و مجتمعية هي أبعد ما تكون عن قيم الحق و العدل و المساواة التي بشر بها الإسلام و نشرها في أرجاء المعمورة.

لكن، إذا تجازونا لحظة الصدمة العاطفية و التوظيف السياسي و الإعلامي  الممنهج للحادثة، فهل كانت لعبة حرق الكتب مرتبة مسبقا بغية استغلال أجواء التجاذبات السياسية الراهنة بين السلطة و المعارضة و التأثير على موازين القوى المتخاصمة في الساحة الموريتانية؟ و هل كان "بيرام" و جماعته يقدرون حقا حجم التداعيات الخطيرة لفعلتهم "الرمزية"؟ أم أنهم أساءوا تقدير مستوى الاستياء الديني و الشعبي  العارم استنكارا و تنديدا بموقفهم؟ هل أخطأت "إيرا" و وقعت في الفخ ؟ أم أن كل شيء يهون  في سبيل تحقيق مكاسب جديدة برسم حركة ظلت تبحث عن ذاتها وسط ركام التجاذبات السياسية و خصومات المصالح و المطامح المتزاحمة؟ هل بلغ الأمر أن تقدم الحركة على التورط في خدمة أجندات أجنبية مشبوهة بغية تفجير الأوضاع في موريتانيا بطريقة استفزازية من خلال لعبة الفوضى "الخلاقة"؟ ثم هل حرق كتب الفقه المالكي في حد ذاته يعد تجديفا و كفرا؟ أم هو في مراميه الحقيقة ثورة ثقافية جريئة ضد التابو الديني ربما تؤسس لمرحلة جديدة من أنسنة القيم تقوم على تنسيب المطلق و عقلنة المقدس؟

تاريخ الشعوب و الحضارات شرقا و غربا مليء بأحداث تدمير الكتب حرقا، وغسلا، ودفنا، وإغراقا، و تمزيقا.. و قد ذكر الشاعر و الصحفي الألماني "هينريش هاين"، الذي عاش في القرن التاسع عشر، عبارة باتت تؤرقني دائما منذ  طالعتها لأول مرة لدى قراءتي قبل سنوات لكتاب "التاريخ الكوني لتدمير الكتب بدء من الألواح السومرية إلى حرب العراق" للكاتب الفينزويلي المميز "فرناندو باييز".  فقد استهل هذا المؤلف كتابه الضخم، الذي ترجم إلى أكثر من 12 لغة عالمية، بهذه العبارة المحزنة: "حيثما تحرق الكتب، سيحرق الرجال في نهاية المطاف".  و قد صدرت ترجمة لذلك الكتاب بالفرنسية سنة 2008 عن دار "فايار" الباريسية للنشر في 527 صفحة. و خلص المؤلف إلى أن بواعث تدمير الكتب هي أبعد ما تكون عن مجرد الجهل بقيمتها، بل تتم غالبا بقصد محو الذاكرة  الجماعية والتاريخ الشترك، أي تدمير هويات الشعوب.
 في سنة 48 م أحرق قيصر الرومان مكتبة الإسكندرية،  و في سنة 146 أحرقت كل مكتبات قرطاج. و أحرقت مكتبة روما سنة 181 م بسبب الكتب الفلسفة الإغريقية التي احتوتها. و في سنة 371 م أمر "فالينس" بإحراق كل الكتب غير المسيحية في أنطاكية، و في سنة 442 أحرق العرب مكتبة السكندرية، و في سنة 590 أمر البابا "اغريغوار الأول" بإحراق كل الكتب التي تعود لعهد روما القديمة، و في سنة 1109 أحرق الصليبيون مكتبة دار العلم في طرابلس، و في سنة 1258 أحرق المغول 36 مكتبة في بغداد، و في سنة 1309 أحرقت مكتبات اليهود في باريس، و في 1499 أحرقت الكتب العربية و الإسلامية في غرناطة، و في سنة 1535 أحرق "شارل كوينت" مكتبات تونس، و في سنة 1812 أحرقت جل مكتبات موسكو، و في سنة 1814 أحرق البريطانيون مكتبة الكونغرس الأمريكي في واشنطن.



 و قد استمرت ظاهرة إحراق الكتب في القرنين العشرين و الحادي و العشرين.. وصولا إلى يوم الجمعة الموافق 27  ابريل 2012 حيث أقدمت حركة "إيرا" الإنعتاقية على تنظيم حفل إحراق رمزي لبعض أهم كتب المذهب المالكي في ساحة عمومية  في العاصمة انواكشوط، و هو الحدث الذي أثار و ما يزال يثير ردود فعل واسعة النطاق من الشجب و التنديد في الأوساط الشعبية و السياسية و الثقافية في عموم البلاد و في المنطقة بسبب غرابة المشهد، و طبيعة توقيته و غموض أهدافه، و بشاعة أسلوبه...

أما تاريخ حرق الكتب في التراث العربي الإسلامي فهو عريق جدا حسب ما يذكره المؤرخون. سلسلة من قرارات المنع والحجب تتوالى على الكتاب تارة وعلى الكاتب أخرى، تاريخ متوارث من القمع والجهل المنبثق من ثقافة الكلام والشفاه خوفاً من القلم أن يكتب وخوفاً من الورق أن يحفظ ما كتب وخوفاً من الفكر أن يزعزع ثوابت العقول الجامدة. إنه تاريخ لم يُراق بالدماء ولكن أريق بكتب العلماء والمفكرين كما يصر على ذلك بعض الباحثين المعاصرين المتخصصين في هذا المجال.

لقد ذكر الباحث ناصر الحزيمي، صاحب كتاب "حرق الكتب في التراث العربي" الصادر سنة 2002 أحداثا كثيرة حول تدمير الكتب وفق تسلسل زمني منذ سنة 82 هـ إلى سنة 913 هـ. وقد تعرض المؤلف إلى نماذج مما جرى من تلك الممارسات على مدى عشرة قرون، بدأت من القرن الأول الهجري، وبالتحديد سنة 82 هـ ، بكتاب (فضائل الأنصار وأهل المدينة) الذي كتبه أبان بن الخليفة عثمان بن عفان و اتلفه عبد الملك بن مروان لأنه لم يكن يعترف بفضل الأنصار في الفتوحات والجهاد. 

و قد اختصر الباحث كتابه على نوعين فقط من إتلاف الكتب هما: اتلاف السلطة للكتب (السلطة بجميع انماطها من سلطة الحاكم او المجتمع او الفرد أو سلطة الأيدولوجيا أو العادات و التقاليد، إلخ.). أما النوع الثاني فهو الإتلاف الشخصي للكتب ويتمثل بتدمير الكتب لأسباب علمية او اعتقاديه او نفسية و قد كان منتشرا في العالم العربي والإسلامي، ففي الفترات المبكرة من الاسلام استثني القران من هذا العداء فتم تدوين مصحف عثمان وأتلف ما عداه من المصاحف. ثم تطور الموقف فاستثني تدوين السنة مع القرآن وكره ما عدا ذلك مثل كتب الرأي.

في سنة 163 هـ أمر الخليفة المهدي بتقطيع كتب أنصار المُقنَّع الذي خرج عليه بخراسان، و في سنة 322 هـ أحضر أبو بكر بن مقسم - وهو من النوابغ في عصره- إلى بغداد وقيل إنه قد ابتدع قراءة لم تعرف و ناظره ابن مجاهد والقضاة  فاعترف بالخطأ وتاب وأحرق كتبه. كما ذكر الباحث تحت عنوان (العلماء الذين اتلفوا كتبهم)  35 أسما شهيرا من بينهم أبا حيان التوحيدي، و ابو عمرو بن العلاء، وابن سينا، والماوردي.

و من الحوادث البعيدة تدمير مكتبة آشور بانيبال، وإحراق أخناتون النصوص التي تختلف مع فكرة الوحدانية التي كان يدعو إليها، وإحراق مكتبة الإسكندرية، ثم إحراق الإمبراطور الصيني كين الكتب بدافع سياسيّ غرضه توحيد الصين، ثم الفيلسوف العربي ابن رشد الذي أحرقت كتبه في الأندلس في عهد ملوك الطوائف. ثم صلاح الدين الأيوبي الذي دمر المكتبة الفاطمية و كذلك دمرت مكتبة المنصور في قرطبة سنة 1000هـ .

 و يفسر بعض الباحثين المعاصرين هذه الظاهرة، حيث يرون بأن إحراق كتب أبي حيان التوحيدي إنما كان أسوة بأئمة يُقتدى بهم مثل الفقيه الزاهد داود الطائي، الذي يذكر بأنه ألقى بكتبه في البحر، و كذلك الزاهد المعروف يوسف بن أسباط، الذي ألقم كتبه غاراً في جبل وسدّه عليها، وأبي سليمان الداراني الذي سجر كتبه في تنور، وسفيان الثوري الذي نثر كتبه في الريح بعد تمزيقها وأبي سعيد السيرافي الذي أوصى ابنه أن يُطعم كتبه النار.

و يرى مؤلف كتاب "حرق الكتب في التراث العربي" أن أسباب إتلاف الكتب متعددة منها ما هو ديني، ففي صدر الإسلام كانت كل الكتب ما عدا القرآن قد حرقت، و منها ما هو أمني خوفاً من الفتن أو نرجسي إرضاء لغرور بعض السلاطين و الحكام أو بسبب الخلافات العصبية أو المذهبية و الطائفية.

لكن، لماذا اختارت حركة شابة تقدمية تتطلع أن تكون المدافع الأبرز عن الحقوق الشرعية لشريحة مجتمعية واسعة من الموريتانيين ممن جنى عليهم التاريخ و المجتمع في الماضي، أن تسقط في أتون التجديف و تدنيس المقدس؟ لماذا تورطت حركة "إيرا" المناهضة للعبودية في الغوص في مجال بالغ الحساسية هو معايرة النصوص الدينية و نقد المؤلفات الفقهية و تمييز طبقات كتاب و شراح المذهب المالكي بأساليب القرون الوسطى المتجاوزة جرا و تنكيلا و حرقا؟ هل تعي جيدا حركة "إيرا" جسامة المهمة التي انتدبت لها نفسها؟ و هل يمتلك منظرو  تلك الحركة كامل الأهلية الفكرية و الأخلاقية معرفيا و ابستيمولوجيا و منهجيا كشروط قبلية لازمة لتحدي سلطة  و سطوة النصوص الدينية بعد ما أعيتهم الحيلة  في مقارعة السلطة الزمنية حينا و مغازلتها أحيانا؟

هل ما أقدمت عليه "إيرا" عن سابق إصرار و ترصد هو مجرد عمل عبثي و مغامرة طائشة أو فقاعة فارغة لا تعبر عن شيء و لا تمثل أي بعد ثقافي أو فكري حقيقي؟ أم بالعكس سيكون لهذه الفعلة ما بعدها؟ خاصة بعد أن تهدأ الأمور و تطمئن أنفس المؤمنين بعد استفزازها؟ هل ستشكل محرقة كتب المالكية مقدمة لكتاب لم يكتب بعد حول جذور ثورة ثقافية قادمة تفتح آفاق البلاد نحو إصلاح ديني جديد يعيد تأصيل النصوص الدينية ويحقق شروط مصالحتها مع الحداثة؟

لا أحد يستطيع التكهن بتداعيات الموفق الصاخب حاليا و المليء بالمتناقضات :  منظمة حقوقية تغرد خارج القانون و تعمل بدون ترخيص، تقيم قداسا في الهواء الطلق و تجند ميليشيات تمارس البلطجة دون أي تدخل من طرف السلطة العمومية.. إعلام رسمي يحضر مبكرا لتوثيق محرقة الكتب بالصوت و الصورة و يتخلف عن تغطية حتى حفل صغير للتشجير المدرسي.. قوى أمن مدججة تنكل بطالبات المعهد العالي لمجرد رفعهن شعارات مضادة.. و تغيب كليا في ساحة عمومية تنظم فيها مراسيم صلاة جمعة "موازية".. و يجري على هامشها حفل لحرق أمهات كتب المذهب المالكي.. كما كان يجري في القرون الوسطى.. عدالة  تنتظر من يعطيها الضوء الأخضر للممارسة صلاحياتها في تحريك الدعوى.. في حين يفترض بأنها سلطة مستقلة.. أما أحزاب الأغلبية و المعارضة فهي تتبارى في تدبيج البيانات و تأليف أدبيات الشجب و الإدانة و تتقاذف المسؤولية عن ما حصل.. بينما هي في الحقيقة ظلت كلها تغازل حركة "إيرا" في السر و العلن و تعقد معها صفقات التنسيق و التحالف.. أو تقعد منها مقاعد للسمع.. من أجل حسابات تكتيكية..
  
 لقد تأكد لدي بعد استقراء مجمل الأحداث المتلاحقة و الردود التي أثارتها عاصفة حرق الكتب، بأن خيرة من شباب هذا البلد- للأسف الشديد- قد يقعون بسهولة في أسر الإثارة الرخيصة أو المغالطة البشعة، إذا لم نلتمس لهم أحسن المخارج التي لا أظنها قد تكون شيئا آخر غير ضيق الأفق و العاطفية المفرطة في تناول و تحليل الظواهر و المشكلات المجتمعية التي لازالت تعاني منها و من آثارها السلبية بلادنا و مجتمعنا الموريتاني.

و لعل ما خرج به علينا الأخ المبجل بيرام ولد الداه ولد اعبيدي هذه المرة - و هو شاب أحترمه كثيرا و أقدر مواهبه و لا يمكن أن أحاسبه قطعا على اختلافي في الرأي معه- إنما يعد نموذجا فاقعا لمثل هذه الهفوات التي لا تليق لا بمكانته هو و لا بمكانة نضالات الحركة التقدمية الإنعتاقية في قلوبنا جميعا، و لعل البلاد هي أيضا في غنى عن مثل هذه المجازفات الآن، خاصة مع احتمالات ما تنذر به الأيام القادمة من توتر و أزمات خانقة.

وفي انتظار استيضاح خفايا و غوامض الموضوع، أستسمح القراء الأفاضل في تبيان الأمور الآتية للرأي العام:

·        إن ظاهرة العبودية و الاسترقاق في العالم لم تكن يوما من الأيام محصورة في فئة مجتمعية معينة لا تاريخيا و لا جغرافيا؛
·        إن عامل لون البشرة لم يكن محددا علميا لتمييز العبيد و الأسياد في موريتانيا منذ تاريخها الروماني القديم إلى اليوم،  لأن اختلاف الألوان قد يشكل هواية تصلح لإرضاء ذوق شخصي، و لكنه لا يمكن أن يعتمد أساسا لهوية مجتمعية و ثقافية أو أو يتخذ عنوانا لبرنامج عمل سياسي ضمن الظروف الطبيعية و التعاطي الإيجابي في حياة المجتمعات و الشعوب ؛
·        إن أقرب شيء إلى النزعة العنصرية بمعناها الكلاسيكي المتجاوز جدا هو التمييز بين بني البشر عن طريق لون البشرة، لأنه لم يعد يعني شيئا من الناحية العلمية بعد أن سقطت منذ زمان كل النظريات الإتنولوجية و الأنتروبولوجية التي كانت تؤسس علم الأجناس و أصبحت من الماضي السحيق الذي لا يلتفت إليه أحد؛
·        في أكثرية الدول الأفريقية لم تمنع الصفة المشتركة للون البشرة من التمييز البشع بين مئات الأعراق و الإثنيات المختلفة (السنغال 22 مجموعة أثنية) و (20 مجموعة أثنية في مالي) و (27 مجموعة أثنية في رواندا) أحرى أن تحول دون الإقتتال الدموي و حرب الإبادة بين "التوتسي" و "الهوتو" مع أن كلهم كانوا من ذوي البشرة السوداء طبعا؛
·        لم تمنع صفة لون البشرة المشتركة من التمييز بين مئات الأعراق و الإثنيات المختلفة في أنحاء مختلفة من العالم، من التمييز و الاضطهاد و التنكيل (أكثر من 100 مجموعة إثنية في فرنسا إضافة إلى 8 لغات محلية)  و  (17 مجموعة أثنية في إسبانيا) و (25 مجموعة أثنية في تركيا)، كما أنها لم تمنع من صراع الإسبان مع الباسك و لا الفرنسيين مع الكورس و لا العرب مع الإسرائيليين و لا الأتراك مع الأكراد و لا الأرمن مع الأتراك و اليابانيين مع الصينيين، إلخ.. مع أن جميعهم من ذوي البشرة البيضاء طبعا؛
·        إن لعبة تسييس الأقليات و الإثنيات و "الحراطين" و "لكور" و "البربر" و "لعرب" و "حزب حسان"، كلها أوراق قد أصبحت ذابلة و بالية منذ زمان، بعد أن تم استنفادها من طرف أجيال من السياسيين الموريتانيين، من كل الألوان و الأطياف، باعوا و اشتروا من خلالها و حصلوا على ما حصلوا عليه، و اليوم لم يعد "تحريك" هذه الأوراق يفيد شيئا إلا  ما يسمى بالحسانية بـ"اتبعريص فيه إلا شين الميته"؛
·        إن الممارسة السياسية بشكل عام فاشلة في بلادنا و في كثير من بقاع العالم منذ فترة. فالشعوب محبطة و لم تعد تهتم لا بالسياسة و لا بالسياسيين لكثرة خداعهم للمواطنين البسطاء.  و هكذا بعد انسحاب الجماهير من الشارع قفزت إليه مجموعات صغيرة  هامشية في بلدان كثيرة من العالم. و مع أنها لا تحمل أفكارا و لا رسالة جادة إلا أنها كثيرة الصخب و  الشغب. و هي مجرد بؤر متفرقة تروم فقط الإثارة و التحريك و التشكيك و التحريض من أجل لفت الانتباه إليها بغية الحصول على بعض فتات الموائد و المآدب الكبرى التي تسيطر عليها الحيتان الكبيرة ليس إلا. و لعل هذا هو ما يفسر الزخم الكاذب الذي تتمتع به اليوم في الغرب بعض من الجماعات الفاشلة و الكاسدة مثل المطالبين بحقوق "اللواطيين" و "المثليين" و بعض جمعيات الرفق بالحيوان و حركات اليمين المتطرف، و غيرهم من "التبتابه" و المزايدين؛
·        إن سيطرة أناس هم أصلا من محدودي التحصيل المعرفي و العلمي على قيادات بعض الحركات السياسية، خاصة ممن تنقصهم الحصافة و الإحاطة و الدقة، حتى و إن كانوا من الناشطين تنظيميا، من أمثال الأخ "بيرام" و غيره، قد أسهمت في تمييع قواعد ممارسة الأنشطة المدنية و إفساد مرجعياتها و قيمها و قلب توازناتها و ثوابتها، فأصبحت ملاذا لكل فاشل و كل طامع، و عنوانا كل مراوغ و مناور باحث عن دور ثانوي لـ "كومبارس" يظل ينعق بكل فظاظة إلى أن يجد من يستأمره على تنفيذ أجندة خاصة قد يستفيد منها و لو بنزر قليل؛
·        الأخ "بيرام" بعد ظهوره السياسي المتزن سنة 2007 و محاولته ركوب موجة مرشح الرئاسيات "الزين ولد زيدان" المخملية و التماس بريق ملعقته الذهبية، سقط فجأة في راديكالية فجة و غامضة، و تبنى خطابا ناريا قدحيا يائسا، جعل منه ذلك المنبت الذي "لا ظهرا أبقى و لا أرضا قطع". فلا هو بقي ضمن الدائرة المتقدمة للقيادات الشبابية لحركة الحر التي تطمح أن تشكل في المستقبل بدائل للقيادات العتيدة الحالية بمختلف مشاربها، و لا هو استطاع أن ينتقل بملف مهم جدا مثل "العبودية و مخلفات الاسترقاق" إلى مستوى التعاطي الايجابي بشكل قادر على استيعاب النقلة النوعية لتطور الملف من الناحيتين التشريعية و المؤسسية، بعد أن أصبح قانونا تبنته الدولة و سحبته إليها و لم يعد قضية أشخاص يناورون و يزايدون به هنا و هناك؛

·        جاء ظهور "بيرام" في سياق موجة شبه عامة من شيوع التنطع و التهور و اللامبالاة بعبء المسؤولية الأخلاقية اللازمة لمهمة توجيه الرأي العام في المجتمعات. كما أنه لم يستطع أن يعظم الاستفادة من تطور  قضية عادلة و وجيهة مثل قضية إنصاف الأرقاء السابقين أو "الحراطين" و إنما  سقط - دون ذكاء يذكر- في عقدة السلبية و المظلومية، محاولا الرجوع القهقري بعقارب الساعة 30 سنة إلى الوراء من خلال بعث خطاب راديكالي لم تعد مقوماته موجودة كما أن من صنعوه و من نفخوا فيه الروح مازالوا أحياء يرزقون و يستمتعون، وقد حققوا به ما حققوه من مكاسب و مكتسبات (ولد لحمير، ببكر، مسعود، بيجل، مرزوك، إلخ) على طريقة "ذهب أهل الدثور بالأجور".. و هم يعتبرون أنفسهم بالتالي أولى المعروف من غيرهم خاصة من شباب الحركة المستعجلين على رغد العيش و الرفاهية الحالمة و لو على أكتاف قضاياهم و قناعاتهم النضالية؛

·        كل هذه الاعتبارات و غيرها لا يمكن أن تبرر بأي حال من الأحوال اعتقال "بيرام" بطريقة  غير قانونية و لا التنكيل به.  بل يجب أن تأخذ الأمور مجراها نحو العدالة بدون أي تدخل و لا مزايدة.. و لا تسييس.. و لكن، يبدو أن ما يجري حتى الآن هو جزء من لعبة صدئة و مؤامرة مستمرة ضد هذا الشعب الغلبان و هذا البلد المغلوب على أمره. إن اعتقال ولد اعبيدي في هذا الوقت بالذات، هو أساسا من أجل تلميعه و خلق شخصية كاريزمية من هذا الرجل بالتعسف و المكر. و أغلب الظن أن سيجري لاحقا التفاهم  معه في إطار صفقات سقيمة لتبادل الأدوار و التنافس الأناني على الامتيازات و الحظوة بين القيادات السياسية لحركة "الحر" و مغازلاتها و متاجراتها مع النظام، بعد أن فقدت الحركة الأم كل أوراق "العبودية" من خلال إقرار الدولة لقانون تجريم "الرق" و إفراغه في نفس الوقت من محتواه الحقيقي و الإبقاء عليه فقط لمجرد المناورة السياسية الموسمية قبل الانتخابات القادمة؛

مرة أخرى، ألتمس أحسن المخارج للأخ "بيرام" من هذا المأزق الذي لا يليق به و من هذه الورطة التي فاجئنا بها. و على كل حال، يبقى أن نقول بأن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية و حرق الكتب، على بشاعته، ظل ممارسة مألوفة في التراث الإنساني لا تعني بالضرورة التجديف، ولا يقتضي حتما التكفير. و سأذكر الأخ "بيرام" بأن الأهداف النبيلة التي ناضل و يناضل ببسالة من أجلها هي بلا شك أهداف تحررية يشاركه فيها كل الشرفاء من أبناء هذا الوطن في كل زمان و مكان، علم و اشتهر منهم من علم و اشتهر، و ارتحل منهم من ارتحل مطمئنا إلى رحمة ربه و احتجب منهم من احتجب مروءة لذمته و كظما للغيظ، لا خوفا من الفانين و لا طمعا في الفانية. لكن، كم كان في ودي أن يستجمع الأخ "بيرام" كامل شجاعته الأدبية فيؤلف كتابا نقديا حصيفا يرد به على فقهاء المالكية و يبين موقفه بالحجة و الدليل بدل اللجوء إلى أساليب الجهالة و الهمجية التي كانت سائدة في القرون الوسطى...

نواكشوط، فاتح مايو 2012

محمد السالك ولد إبراهيم،
باحث و خبير استشاري/
مؤسس المركز الموريتاني لأبحاث التنمية و المستقبل

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire

سيدي محمد ولد بوبكر: قراءة في طموح سياسي مثير؟

حتى وإن بَدَا متأخرًا ذلك الطموح السياسي الذي أبانَ عنه الوزير الأول الأسبق السيد سيدي محمد ولد بوبكر، من خلال الإعلان عن ترشحه للمنصب...