أما و قد أصبح من الممكن الآن فتح قنوات تلفزيونية أو محطات إذاعية حرة، أو خاصة أو خصوصية، أو مستقلة.. حسب ما يناسب ضمير المتكلم من تلك التعبيرات الدارجة - بعد طول احتكار الدولة، جزاها الله خيرا، للفضاء السمعي البصري في موريتانيا منذ إنشائه بعيد الاستقلال- فقد عاودتني بعض الخواطر و التأملات و أنا أتابع هذه الأيام مجريات التنفيذ الميداني لهذا التطور التواصلي النوعي الهام الذي تشهده البلاد حاليا.
و بجهد المقل، ارتأيت أن أتقاسم هذه الثرثرة حول الموضوع مع القراء تعميما للفائدة كما كان يزعم الكتاب القدامى حين تعوزهم الحيلة، رغم معرفتي بأن اهتمام الناس هذه الأيام إنما ينصب أكثر على تدبير المشاغل اليومية.. و ترصد أخبار "الكزرة" و الترحيل.. أو تصيد جديد "رباخه" في محلاتها.. أو قضاء العطلة الصيفية بحثا عن الراحة و الاستجمام.. و ترقب أحوال الطقس و تقلبات المناخ.. بين ربيع الثورات العربية و خريف الثورات و الثيران الموريتانية، مع شيء يسير من الاهتمام بمستجدات التلفزة الوطنية مثل مسلسل التدشينات و إعادة التدشينات.. و الزيارات السياحية الوزارية و شبه الوزارية.. و متابعة أخبار "وادي الحوار المتصدع" الموعود بين السلطة و المعارضة.. و ما يذكر عن تفشي حمى انفلونزا الانتخابات المتعثرة و.. المعلقة إلى حين.. و ما لذلك كله من تداعيات مختلفة على حياة الناس في الحواضر و الأرياف. غير أن حرية الإعلام المسموع و المرئي ..تكتسي أهمية خاصة بالنسبة لموريتانيا قد لا تقل أهمية عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر بالنسبة للولايات المتحدة "بالفال الأحسن".. ولا يمكن أن تمر هذه المناسبة على "أهل الخيام" مرور الكرام..
فبعد مسيرة طويلة استمرت أكثر من عشر سنوات، ظل خلالها تحرير الإعلام السمعي البصري مجرد حلم يراود بعض النخب الموريتانية بحكم الوعي المتنامي لمتطلبات الحداثة و العصرنة في فترة ما قبل عصر العولمة، أصبح ذلك الحلم الجميل فكرة واضحة يبشر بها أصحابها منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، ثم أضحى مطلبا ينادي به المطالبون باستكمال مشروع التحول الديمقراطي مطلع التسعينيات، إلى جانب حزمة الإصلاحات السياسية (الدستور و الانتخابات التعددية، و حرية الصحافة المكتوبة و تشكيل الأحزاب، إلخ...)، ليتخذ مع مطلع الألفية الجديدة شكل مسودة مشروع تنتقل بهدوء بين بضعة أيادي حازمة و عدة دواليب حكومية معتمة، ثم ليتحول مؤخرا إلى مشروع قانون تمت المصادقة عليه منذ أكثر من سنة، لتنطلق أخيرا الإجراءات الإدارية الرسمية و العملية لتجسيده على أرض الواقع.
و لا شك أن هذا التطور التواصلي النوعي بالغ الأهمية في حقيقته كما في أبعاده و مراميه المختلفة، بل لعله قد يكون القرار الأهم في تاريخ موريتانيا المعاصرة لتكريس الحريات العامة و تحرير العقول و تسهيل تحقيق التنمية المستدامة و توفير العدل و الإنصاف. و لكن التطبيق العملي لهذا التطور الهام لا يخلو من رهانات وتحديات جسيمة.. فلا ينبغي أن تغيب عن أذهاننا الجوانب السلبية بل الكارثية التي قد يؤدي إليها تسيير عملية تحرير الفضاء السمعي البصري بتلك العقلية القديمة غير المحررة أصلا.. و بأجندة سرية غير سمعية و لا بصرية.
و عموما.. يبقى أهل مكة أدرى بشعابها السمعية البصرية و بشعوبها الأرضية و الفضائية.. و هم سيعرفون بحسهم الفطري بأن لا داعي لتكرار تجربتين إعلاميتين فاشلين بامتياز هما قصة التلفزة الموريتانية - مع احترامي الشديد لصديقي المدير الجديد و.. دعواتي الصادقة له- و قصة الصحافة الموريتانية المكتوبة المستقلة منها و غير المستقلة، و التي يمكن تلخيصهما في الثالوث الفظيع: الرداءة.. الأحادية .. و "التبتيب"...
أما كاتب هذه الثرثرة.. فهو ليس إعلاميا محترفا.. ليتحدث عن خبرة نافعة.. و لا هو بهاو.. باحث عن متعة أو تسلية.. بل إن "تجربة" صاحبنا و رحلته التطفلية على حقل الصحافة جد متواضعة.. لم تتجاوز عتبة تحرير الصحيفة الجدارية لمدرسته الابتدائية في مدينة ازويرات، منتصف سبعينات القرن الماضي. أما بعد ذلك، فقد ابتعد بي قطار الحياة الجاري نحو الاهتمام أكثر بشؤون السياسة و الأدب و الفكر و الفلسفة و الإدارة و قضايا الدبلوماسية و القانون الدولي. و في مطلع التسعينيات، كانت لي تجربة أخرى عابرة في حقل "الصحافة القانونية" هذه المرة.. فقضيت بضع سنوات أشرف على تحرير "الجريدة الرسمية" باللغتين العربية و الفرنسية، عندما كانت إدارتها الناشئة ملحقة برئاسة الدولة- التي قررت آنذاك إصدار الجريدة الرسمية في انواكشوط بعد أن بقيت منذ الإستقلال تصدر في مدينة بوردو الفرنسية، إضافة إلى إصدارها لأول مرة بطبعة عربية إلى جانب نسختها الفرنسية المعهودة.
بعد ذلك بسنوات عدة.. قدر لي- بمحض الصدفة- أن أعيش تجربة إعلامية تنظيرية غنية و فريدة من نوعها.. أستسمح القراء في استطراد جانب منها.. فليعذروني قليلا إذا أطلت عليهم كثيرا..
في نهاية التسعينيات، كنت ضمن مجموعة تفكيرية Groupe de réflexion تتألف من ستة طلاب من موريتانيا والصين و روسيا و بنغلادش و مدغشكر و اليونان، يدرسون في السلك الطويل بالمعهد الدولي للإدارة العمومية بباريس - الذي يعرف الآن بالمدرسة الوطنية للإدارة. و قد طلب منا في إطار الدراسة أن نعد تقريرا حول موضوع "أي سياسة إعلامية خارجية مسموعة ومرئية أنسب لفرنسا ؟". و انتدب المعهد خبيرين إعلاميين فرنسيين معروفين جدا لتأطير المجموعة و تسهيل اتصالها مع المؤسسات الإعلامية المعنية، هما الميسيو "كريستيان تروبيه" مدير مجلةCroissance/ Le Monde en développement و الميسيو "فرانسيس بال"، الأكاديمي المتخصص في مجال الإعلام المرئي و المسموع و عضو مجلس إدارة إذاعة فرنسا الدولية - RFI و مؤلف عدة كتب حول قضايا الإعلام العمومي و تحديات تحرير الفضاء السمعي البصري في فرنسا.
قامت المجموعة التفكيرية متعددة الجنسيات و التخصصات، بمساعدة الخبيرين المشرفين، بتشريح أهم المؤسسات الإعلامية الفرنسية العمومية آنذاك و هي: إذاعة فرنسا الدولية RFIو قناتي TV5 و CFI ، من خلال زيارات ميدانية و الإطلاع على الوثائق، و النقاش مع المسؤولين في تلك المؤسسات و كذا في سلطة التنظيم التي تسمى في فرنسا "المجلس الأعلى للسمعيات البصرية CSA" و في مديرية الإعلام الخارجي بوزارة الخارجية الفرنسية التي تمارس سلطة الوصاية على تلك المؤسسات الإعلامية . و قد تواصل عمل المجموعة التفكيرية طيلة ثلاثة أشهر، قمنا خلالها بجمع و تحليل و نقد المعطيات الموجودة و اقتراح الحلول و البدائل الممكنة.. كل هذا الجهد أرادت الدولة الفرنسية أن يضطلع به أناس أجانب غير مختصين بالضرورة في مجال الإعلام، من أجل المساهمة في بلورة إستراتيجية إعلامية جديدة لفرنسا، تتناسب مع عالم ما بعد الحرب الباردة.. و تأخذ بعين الاعتبار متغيرات العولمة الكاسحة.. و تواكب التكنولوجيات الجديدة للبث الرقمي الأكثر تطورا.
شاركت مع زملائي الآخرين في إعداد التقرير و قدمت عدة اقتراحات ممكنة لتطوير الإعلام الخارجي الفرنسي، و تمت مناقشة تلك الأفكار التي نالت آنذاك اهتماما كبيرا و ملاحظات تشجيعية.. رغم تحفظ بعض كبار منظري الإعلام الفرنسي عليها.. بسبب "جرأتها الزائدة" في نظرهم. فقد اقترحت حلا كان يعتبره الفرنسيون آنذاك "كفرا" إعلاميا بواحا.. نظرا لتشبثهم الشديد بوطنيتهم و بلغتهم القومية.. كان اقتراحي.. يقتضي أن تنشئ و تمول الحكومة الفرنسية مؤسسات إعلامية مسموعة و مرئية تكون ناطقة بلغات أخرى غير الفرنسية، خاصة الإنجليزية و العربية و الإسبانية، و الروسية... من أجل تحقيق نجاح أكبر في تلميع صورة فرنسا و نشر قيمها الثقافية في أرجاء العالم، خاصة لدى شعوب أخرى قد لا تعرف اللغة الفرنسية أصلا.. و لا تكترث حتى بتعلمها.. فاثأر ذلك الاقتراح إعجاب محدثي في مختلف مؤسسات القطاع الإعلامي و تحفظهم الشديد في آن واحد..
وبما أن الأمور تقاس دوما حسب عواقبها.. فكم كانت مفاجأتي سارة، عندما أخبرني زملاء فرنسيون بعد مرور حوالي عشر سنوات على تلك التجربة الإعلامية الطريفة.. أن الحكومة الفرنسية قررت أخيرا.. المضي قدما في طريق نزع حاجز اللغة الفرنسية أمام الإعلام الحكومي.. بل إنها استحدثت مؤسسات إعلامية جديدة مثل قناة France 24، التي أصبحت تبث باللغتين العربية و الإنجليزية بدوام كامل الآن. أما إذاعة فرنسا الدولية RFI فقد فتحت منذ فترة عدة أقسام بلغات أخرى غير الفرنسية.. بالإضافة إلى إدمجها الكامل لإذاعة "مونت كارلو" العالمية الناطقة بالعربية ..
و كما يقول المثل العربي الشهير لصاحبه حكيم بن عبد يغوث المنقري: "رب رمية من غير رام"..
أما في بلادي.. التي تقف الآن على أعتاب رحلة الألف ميل لتحرير الإعلام السمعي البصري الموعود، فقد كنت من أوائل من بشروا و ناضلوا من أجل تلك الفكرة، كما هو موثق في عدة مقالات منشورة في صحف موريتانية تعود لمنتصف التسعينيات، و كذا في هذا المقال المنشور في صحيفة الشرق الأوسط اللندنية سنة 2003 ، و الذي ما زال رابطه محفوظا في ذاكرة الإنترنت..
على كل حال، الأفكار مهمة.. و القوانين مهمة.. و السياسات مهمة.. لكن.. يبقى الأهم هو التطبيق السليم.. و الصبر على النقد و التقييم الموضوعي.. و المتابعة.. و التطوير.. و الأهم الآن بالنسبة لموريتانيا هو إعادة الاعتبار لقيم التواصل والإعلام الحر كفضائل أخلاقية إنسانية و كضرورات حياتية لا غنى عنها من أجل نجاح التحول الديمقراطي و تحقيق التنمية المستدامة..
وهكذا.. لا بد من المبادأة بإصلاح قطاع الإعلام الرسمي المرئي والمسموع و إعادة رسم وعصرنة الإستراتيجية الإعلامية للدولة الموريتانية بشكل يحدد الوظيفة التواصلية الجديدة لوسائل الإعلام العمومي في ظل سيادة الديمقراطية ودولة القانون. كما يتوجب إعادة تنظيم القطاع بما يتماشى مع وضع دولة ديمقراطية تعددية، ترجع السيادة فيها للشعب والولاء لمؤسسات الجمهورية ويطبق فيها القانون والنظام على الجميع بمساواة وعدالة. ويمر هذا الإصلاح حتما بإعادة هيكلة وزارة الإعلام الملقبة في موريتانيا بوزارة "الإتصال" و ليس "التواصل"- و هي تسمية تشي بنواتها "الأحادية" الصلبة و بجوهرها المعتم - بما يضمن تقليم أظافر تلك الوزارة ثم إلغاءها في نهاية المطاف.. بعد أن يتم إصلاح و تفعيل السلطة العليا للصحافة و السمعيات البصرية كسلطة تنظيم حقيقة للإعلام.. لا مجرد مجمع بيروقراطي سياحي من فئة الخمس نجوم.
أما المؤسسات الإعلامية العمومية فيتوجب عليها من الآن فصاعدا أن تحدث "قطيعة ابستيمولوجية" مع تلك الخلفية السيكولوجية المبطنة للخطاب الديماغوجي الرسمي المزمن. و قد تعود ذلك الإعلام - طيلة عشرات السنين و تحت كل الأنظمة المتعاقبة- على احتقار إنسانية المتلقي والاستخفاف بعقله و وجدانه باعتباره مجرد "مجال" محتكر لاتصال أحادي الاتجاه دوما، يسلط من أعلى إلى أسفل. و قد ظل ذلك الإعلام يظهر الحكومة كأنها نصف آلهة، صاحبة اليد العليا دائما، تعطي و تمن، تزجر و توبخ.. تحتفل و تنتشي.. بينما يظهر المواطن دوما في صور نمطية مقززة ذات إيحاءات بالغة السلبية. فالمواطن الموريتاني في وسائل الإعلام العمومي إما شاهد زور يلقن ما سيقوله، أو مهرج يطبل بكل غباء، أو "شحات" بائس يستدر العطف و المساعدة، أو خصم مخالف في الرأي يستحق التوبيخ، أو ضال يطلب هداية، أو أعرابي لا يفقه شيئا، أو كسول لا يريد العمل و الإنتاج، أو خارج على القانون تنبغي معاقبته، أو مخبر فاشل لا يحسن الإبلاغ، أو إرهابي يتوجب التنكيل به. هذه باختصار بعض من تلك الصور النمطية السلبية التي يتوجب على الإعلام العمومي - من الآن فصاعدا- الإقلاع عنها و استبدالها بصور إيجابية تكرس المواطنة و تحترم الرأي و الرأي الآخر، و تخدم التنمية المستدامة.. بعيدا عن لعبة الاستخدام "السياسوي" المزدوج في التطبيل و التزمير و السب و القدح .. و تغليب التمصلح..و التزلف و النفاق و إتباع الأهواء و الأمزجة.
أما السلطة العليا للصحافة و السمعيات البصرية - مع احترامي الشديد لأخينا رئيسها.. ودعواتي الصادقة له- فلا بد من إرادة جمهورية حقيقة و جادة لتفعيلها و إعادة تأهيلها لتشب عن الطوق ..و تتجاوز مرحلة الديكور و المحاكاة لتصبح مستقلة تماما و قادرة على ممارسة كامل صلاحياتها التحكيمية في مجال تنظيم السمعيات البصرية كمؤسسة جمهورية سيادية كاملة السلطة.
أما المبادرات الإعلامية السمعية البصرية الخصوصية التي يفترض أن ترى النور قريبا.. فأتمنى لها كل التوفيق حتى قبل أن تولد.. لكنني أذكر أصحابها بحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه".. كما أطالب أصحاب القرار في الثلاثي المتحكم (الدولة والسوق النخب) بتسهيل عملية تحرير العقول أولا.. قبل تحرير الإعلام، لكي يتسنى للقائمين على المؤسسات الإعلامية السمعية والبصرية الوليدة انتهاج أسلوب مهني في الطرح الموضوعي و المعالجة الجريئة و المتوازنة.. بعيدا عن كل الإغراءات و الضغوط و الممارسات الزبونية المخلة بشرف تعاطي مهنة الإعلام و التواصل المفيد.. و على الجميع كذلك السهر على ضمان احترام اختيارات ومواقف واستقلالية تلك القنوات و المحطات الجديدة عندما يبدأ قوس قزح الإعلامي الجديد يسطع بزهو في سماء موريتانيا الممكنة.
محمد السالك ولد ابراهيم
medsaleck@gmail.com
انواذيب - 10 اغسطس 2011