اليوم تحدث الرئيس أوباما في أكبر محراب للوبي الصهيوني في العالم "آيباك".. تحدث الرجل بفصاحته و بلاغته المعهودة.. لكنه تحدث أيضا بصراحة و وضوح في الرؤية غير مسبوق.. الشاب الأسود الطموح، الذي كنا من قبل نعتبره أخا و صديقا لنا من آل فرعون يكتم إيمانه عن سدنة البيت الأبيض و حاخامات منظمة آيباك، تحدث اليوم حديث القلب عن إسرائيل.. وعن التزام أمريكا العضوي بأمن إسرائيل..
شاهد أوباما بهامته السامقة كل "الأخطار" التي تحدق بمستقبل إسرائيل .. الدولة الصغيرة و الضعيفة وسط غابة الأعداء المتربصين.. لكن بصيرة أوباما الثاقبة عميت عن أن ترى إسرائيل الظالمة..الغاصبة.. المستوطنة.. المتغولة.. الغاشمة.. السادرة.. المتغطرسة.. ضد قيم الحق.. و العدل..و الخير.. و القانون.. والمنطق.. والإنسانية.. تفنن أوباما في تمجيد إسرائيل.. و تحدث عنها كعاشق ولهان.. و ابن بار.. و أب حنون و أخ أكبر.. و صديق مخلص.. ينفطر قلبه قلقا و خوفا على مصير إسرائيل - التي تجمع عجبا بين صفتي اليهودية و الديمقراطية- إذا ما تفجرت تحتها القنبلة الديمغرافية الفلسطينية ذات يوم.. قبل أن تنفجر فوقها القنبلة النووية الإيرانية.. أو قبل أن يصدر سيد المقاومة أوامره إلى مقاتلي حزب الأشاوس بالزحف على جبل الجليل.
صعد أوباما اليوم على منبر "آيباك".. فحمد إسرائيل و أثنى على اليهود .. ثم قذف بمكنونات قلبه في ذكر محبة دولة إسرائيل و التعلق بها .. و الوجد و الهيام و التيه و الوصل و التآخي و التماهي و الفناء في وجود ذلك الكيان الغاصب الذي لا يقبل النقاش و لا المساومة عند أوباما.. أما كل ما سوى وجود إسرائيل.. فقد يكون موضوع أخذ و رد..
اليوم تحدث الرئيس أوباما كما في الحفلات التنكرية في القرون الوسطى.. فأوغل في اللعبة.. تنكر أوباما لكل شيء معروف أو متوقع في سلوكه و في تاريخه.. تنكر أوباما لأصوله و صلاته الثابتة بالمسلمين.. و بالأفارقة و الزنوج.. الذين هم في سمرتهم و طيبتهم و قربهم.. منا نحن "أهل الخيام" هم إخوتنا و جيراننا و حلفاؤنا.. تنكر أوباما حتى لأسمه الثلاثي المعروف "باراك حسين أوباما" .. تنكر أوباما للون بشرته السمراء و شعره المتجعد.. تنكر أوباما لحكايات جدته الزنجية الطيبة التي كانت تعيش في كوخها البسيط وسط أدغال أفريقيا، و تحلم بالحرية و العيش الكريم.
و بينما تذكر أوباما في بوح صباباته اليوم.. رؤيته لطفل إسرائيلي أصابه صاروخ فلسطيني يتيم.. ربما أطلقته حماس.. نسي أوباما كل صواريخ و قذائف عملية "الرصاص المصبوب Plomb durci" الهمجية التي قادتها إسرائيل ضد سكان قطاع غزة في ديسمبر - كانون الأول 2008 و يناير - كانون الثاني 2009 عندما كان هو ينصب رئيسا لأكبر دولة في العالم وسط تفاؤل مشهود. نسي أوباما أن يتذكر كذلك جرائم الحرب الإسرائيلية اللامحدودة ضد الإنسانية .. و المسؤولية الجنائية المترتبة عليها التي تقتضي أن يحاكم و يعاقب مرتكبوها أمام العدالة الدولية.
لقد كنت من أشد المعجبين ببلاغة الرئيس أوباما و قدراته اللغوية المميزة في الإنجليزية.. و من المقدرين لعزمه و مثابرته و نزعته الإرادوية.. و نجاحاته المهنية و الإنسانية.. لكن.. الآن فقط سقط القناع.. و تبينت الحقيقة..
رحم الله "بوش" ما أعدله.. كان يمزق آذاننا صباح مساء بخطبه الركيكة.. و إسرائيلياته و سخافاته المقيتة.. لم يكن يجامل أو يهادن أحدا.. فشكل بوش بذلك أكبر دليل ناطق على نظرية السياسة الخارجية الأمريكية التسلطية عبر العالم.. كما شرحها الفيلسوف الأمريكي الأشهر نعوم تشومسكي. و في زمن بوش أيضا نشر الأكاديمي الأمريكي "زولتان غروسمان" سنة 2002 لائحته المعروفة حول التدخلات العسكرية الأمريكية في الخارج من سنة 1890 إلى سنة 2001، فجاء عددها 137 تدخلاً، و قد ارتفع معدلها - بعد سقوط جدار برلين - إلى تدخلين في السنة الواحدة. أما عدد الحالات التي فرضت فيها الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية ضد الآخرين، فبلغ 120 حالة خلال ثمانين عاماً، منها قرارات اتخذت ضد 75 دولة في سنة 1998 وحدها.
أما الآن.. فأني أقول لأوباما.. ربما ربحت اليوم ورقة هامة قد تضمن بها الفوز في الانتخابات القادمة.. لكنك خسرت كل شيء.. خسرت العالم من حولك.. خسرت صورتك.. و وزنك.. و سمعتك و هيبتك في نفوس و عقول مليارات الناس البسطاء عبر العالم.. ممن كانوا معجبين بك كزعيم و كإنسان.. رغم أنهم لم يصوتوا لك في الانتخابات..
و لتعلم يا سيدي أوباما أن فلسطين باقية .. و أن إسرائيل زائلة.. ببساطة.. لأن فلسطين حقيقة.. و أما إسرائيل فكذبة و خدعة.. قديما قال الفلاسفة القدامى: الوجود موجود و لا يمكن إلا أن يكون موجودا.. و العدم معدوم و لا يمكن إلا أن يكون معدوما.. فلسطين ستبقى.. أما أنا .. و أنت.. وغيرنا.. مثل "الذئب الذي تل ولاته".. فزائلون.. آفلون لا محالة.. ذهب "بلفور" و "وايزمان" و "بن غوريون".. و "شارون".. كما ذهب الصليبيون من قبلهم.. و بقيت فلسطين أولى القبلتين و ثاني الحرمين.. و ستبقى.. إلى أبد الآبدين..
سقط القناع.. و سقطت معه أسطورة الرئيس أوباما.. الذي ستطارده لعنة فلسطين.. في المكتب و في المهجع.. ستطارده عيون أطفال فلسطين في اليقظة و في المنام.. و ستدعوا عليه عجائز فلسطين و نيسابور و شنقيط.. كما سيدعوا عليه ليمون يافا.. و رمان أريحا.. و زيتون قرية "الولجة" بين القدس وبيت لحم التي تحتضن أقدم شجرة زيتون في العالم يقدر عمرها بأكثر من خمسة آلاف سنة.
لقد أصبح عندي الآن بندقية.. إلى فلسطين خذوني معكم.. إلى ربى حزينة كوجه المجدلية.. إلى فلسطين طريق واحد يمر عبر فوهة بندقية.. حقا لقد كفرت بأوباما .. و آمنت بفلسطين..
انواكشوط، 22 مايو 2011
medsaleck@gmail.com