هل انتهت الدبلوماسية الموريتانية الناعمة هذا الأسبوع، بعد إقالة أول وزيرة موريتانية للشؤون الخارجية - و ربما أول وزيرة للخارجية في تاريخ البلدان العربية- ضمن ظروف محلية، إقليمية و دولية بالغة التعقيد و الحساسية؟ ما حقيقة السياسة الخارجية الموريتانية و ما مدى انسجام و نجاعة الآليات الدبلوماسية المتخذة لتطبيقها؟ ماذا عن الطبيعة الإشكالية لعلاقة الدبلوماسية بأمور الحكم و الدولة، من جهة، و بملفات السياسة الداخلية للبلاد بعد نصف قرن من الاستقلال؟
إن الغموض الذي طبع الممارسة العملية للسياسة الخارجية لموريتانيا و تداعياتها على السياسة الداخلية للبلاد و كذا تشعب ارتباطاتهما التاريخية وتناقضاتهما المتراكمة، ظل يثيرقدرا كبيرا من التساؤلات و نقاط الاستفهام. والمفارقة هي أن ذلك التناظر الطبيعي و المألوف بين "الشأن الخارجي" و"الشأن الداخلي" في سياسات الدول- رغم كونه حاليا موضوع تشكيك في ميدان سوسيولوجيا العلاقات الدولية- يبدو شبه مصطنع في الحالة الموريتانية. بل لقد كشفت التجربة الواقعية للممارسة السياسية و الدبلوماسية و الإدارية بأن "الشأن الخارجي" يتماهى تماما مع "الشأن الداخلي" في موريتانيا والعكس صحيح.
و تتباين فرضيات مختلفة في تفسير إقالة وزيرة الخارجية السيدة الناها بنت مكناس، التي كان والدها أيضا، المرحوم حمدي ولد مكناس، وزيرا للخارجية في سبعينيات القرن الماضي، بعد سنة و نصف من تاريخ تعيينها، بين مقولة خطأ بروتكولي جسيم قد يكون حصل إبان انعقاد قمة نواكشوط الإفريقية حول الوساطة في الشأن الليبي الأسبوع الماضي، و مقولة وجود صراع خفي بين الوزيرة و خلية الرئاسة المتنفذة (ولد التومي و شياخ)، مرورا بمقولة إمكانية وجود توجهات جديدة للنظام نحو "عسكرة" الدبلوماسية. و بينما تختزل النظرة السطحية للأمور مسارات هائلة و معقدة لدبلوماسية موريتانية فضفاضة ظل يغلب عليها التذبذب و الارتجال في وقت هي مطالبة بأن تتغير جذريا و تضع أخيرا عصا الترحال، يتجدد سؤال قديم: الدبلوماسية الموريتانية.. إلى أين؟
-1-
لقد ظل من الصعب فهم و تفسير ذلك النفوذ الذي تمارسه "العوامل الخارجية" على ترتيبات السياسة الداخلية في موريتانيا، وبالمقابل، كذلك يستعصى تقدير حجم و ثقل "المعطى الداخلي" في ترتيبات العلاقات الخارجية لبلادنا. من هنا تنبع الصعوبة القصوى بالنسبة للبحث فيما يتعلق بإجراء تقييم موضوعي لطبيعة الأهداف المرسومة، والمناهج المتبعة والنتائج المحققة لمختلف الممارسات المتعاقبة للسياسات العمومية في هذا المجال.
لقد بدت موريتانيا مترددة ومنقسمة بين خيارين كان التوفيق بينهما يبدو صعبا في تلك الحقبة التي تلت الاستقلال. فبين أن تبني ممارستها السياسية على أساس "وضعها التاريخي" أو على أساس "وضعها الجغرافي"، أضاعت موريتانيا وقتا ثمينا في سبيل إرساء هويتها الوطنية بصيغة تحقق الإجماع. كما أن غياب رؤية واضحة للإجراءات العملية لتثمين مستدام لتلك الهوية الوطنية، بما يسمح بوضع أسس واضحة لسياسة داخلية سليمة قد شكل معوقا جذريا. و كنتيجة لذلك، فقد ولدت السياسة الخارجية الموريتانية من رحم تلك الصدمة الأولى. بينما كان الواجب يقتضي أن تكون السياسة الخارجية للبلاد بلورة لفلسفة السياسة الوطنية بما يعكس القيم المشتركة و أيديولوجية "الدولة الوطنية" الجديدة، مجسدة في استراتيجيات و خطط و برامج - تقوم موريتانيا - من خلالها - بتحديد وإقامة و تسيير علاقاتها مع العالم الخارجي و الحكومات الأجنبية، حسب أهداف مرسومة تحقق المصلحة الوطنية العامة و الخاصة.
و رغم مجهودها المتميز في المرحلة التي تلت الاستقلال، ما لبث أن علقت السياسة الخارجية لبلادنا - و هي ما تزال في المهد- في تقديرات "ظرفية"، جعلتها تفتقر إلى العمق و سعة الأفق من حيث المقاربة النظرية و التنفيذ الميداني معا. و فيما بعد، باتت السطحية التي تمت بها معالجة أرجحيه المعطى الدولي وتداعياته الحاسمة على السياسة الداخلية للبلاد، تجد ترجمة وفية لها في طبعات باهتة لـ "سياسات خارجية" يعوزها الانسجام و تفتقر إلى الوضوح و الفاعلية. أما في نهاية مطاف نصف قرن من الاستقلال، فقد انتهى الحال بالسياسة الخارجية الموريتانية إلى حد التماهي شبه المطلق في لعبة تجاذبات الصراع على السلطة و السعي لتقاسم الامتيازات، التي أضحت "شرا مستطيرا" يهدد مصير البلاد. باختصار، لقد أضحت موريتانيا ذلك "الرجل المريض" في المنطقة بسبب سياستها الخارجية.
-2-
إذن، لماذا غالبا ما يبعث التحليل المقارن من الناحية تاريخية، بين معطيات السياسات الخارجية والداخلية المتبعة في موريتانيا، على تأويلات غامضة، بل متناقضة أحيانا ؟
لماذا منذ فجر الاستقلال، تبحث الدولة الموريتانية عن ذاتها متأرجحة بين عملية بناء وطني بالغة الصعوبة، كثيرا ما تستخدم فيها السياسة الخارجية كمجرد أداة لضبط إيقاع سياسة داخلية طالما غلبت عليها مختلف أنواع ممارسات "سياسة البطن"، من جهة. و بين التصدي لهوس دولي يغذيه ميل محموم نحو البحث داخليا عن "مبررات" لـ "ضربات القوة" و "ضربات الدم". إذن، كيف يمكن فهم وزن عوامل التأثير الخارجية على منظومة السياسة الداخلية في بلادنا وبالعكس، ما هو حجم تأثير المعطيات الداخلية على العلاقات الخارجية لموريتانيا؟
أولا، بالنسبة للماضي: كيف كانت إجراءات اندماج موريتانيا في المنظومات الدولية والإقليمية؟ وكيف تعرضت لنفوذ محيطاتها القريبة والبعيدة؟ ما هو الدور الذي كانت موريتانيا تطمح أن تلعبه على المسرح الدولي؟ و من هم الفاعلون الذين تدخلوا في تحديد سياستها الخارجية آنذاك؟ هل كانت موريتانيا فاعلا أم ضحية لسياستها الخارجية؟
أما حاضرا، فهل تتوفر موريتانيا فعليا على سياسة خارجية واضحة المعالم؟ ما هي أهداف تلك السياسة - إن وجدت- مقارنة بمعطيات السياسة الداخلية للبلاد؟ ما مضامينها، و ما رهاناتها الإستراتيجية وما هي طرق تنفيذها ومتابعتها و تقييمها؟ وما هي الأطراف المشاركة و من هم الفاعلون والمستفيدون من هذه السياسة الخارجية؟ هل لدى موريتانيا آليات فعالة لنشاط دبلوماسي مشهود و متماسك يخدم سياستها الخارجية؟ و ما مدى جاهزيتها؟ ما هي المصادر التي تتوفر عليها الدبلوماسية الموريتانية لضمان تعبئة قدراتها من حيث التفاوض والتدخل؟ لماذا تظل الدبلوماسية منفصلة دوما عن الواقع الوطني؟ ما هي المكانة وما هو الدور الذي يمكن أن تضطلع به "الدبلوماسيات الموازية" التي لم تعد نجاعتها - على مستوى المعمورة - تحتاج إلى دليل بعد المكاسب التي حققتها البلاد من خلال "دبلوماسية الشعر" عبر مسابقة أمير الشعراء.
- 3-
قد تكون موريتانيا إحدى دول العالم القلائل التي تأثرت- بشكل لا نظير له- بتقلبات موازين العلاقات الدولية و بوضعها المجحف من منظور جيوستراتيجي و جيوبوليتيكي، و هو وضع بات في الغالب محفوفا بالمخاطر. وعلى الرغم من ماضيها المشرق، حيث كانت في القديم فاعلا دوليا هاما من خلال فتوحات و ملاحم إمبراطورية الصحراء "المرابطين" وإشعاعهم الأطلسي و المتوسطي والإفريقي. إلا أن موريتانيا قد تحولت فيما بعد إلى مجرد "مفعول به" في مضمار العلاقات الدولية، لاسيما بعد أن "وقعت" في نطاق النفوذ الفرنسي بموجب المعاهدة العامة لمؤتمر برلين سنة 1885، الذي تقرر على إثره تقسيم القارة الإفريقية بين الدول العظمى آنذاك.
و على مدى أكثر من قرن من تاريخ موريتانيا الحديث، أي منذ بداية الحقبة الاستعمارية في سنة 1899 إلى يومنا هذا، فقد ظل "المعطى الخارجي" أو "المعطى الدولي" لا يتوقف عن لعب دوره الحاسم في رسم و تحريف بل و قلب الواقع الداخلي لبلادنا رأسا على عقب. حيث تشكل "حفريات" السياسة الداخلية الموريتانية - في الغالب- ترسبات لآثار سياسة خارجية ما، سواء كانت اختيارية أم اضطرارية أو مفروضة على هذا البلد، الذي شكلت دوما سياسته الداخلية الجزء الظاهر فقط من جبل جليد سياسته الخارجية.
عند الانطلاق، ولأسباب جيو-إستراتيجية، كانت السلطات الاستعمارية الفرنسية قد قررت في سنة 1899 إنشاء "موريتانيا الغربية" قصد اختبار قدراتها في مجال "إدارة الفراغ" على حد تعبير" أرنست بيشاري". كان الهدف حينئذ هو مراقبة المنطقة الوسطى "السائبة" الواقعة ما بين مستعمراتها في كل من إفريقيا الشمالية وإفريقيا الغربية الفرنسية. و فيما بعد، حولت موريتانيا في سنة 1904 إلى إقليم مدني، ليتم ربطها -لاحقا- بباقي مستعمرات إفريقيا الغربية الفرنسية في سنة 1920
أما "مشروع موريتانيا مستقلة"، حتى و إن تمت مساندته من بعض النخب الوطنية والموافقة عليه بشكل عام، من طرف السكان المحليين، فإنه كان يستجيب، قبل كل شيء، لاعتبارات جيو-إستراتيجية تخدم المصالح الفرنسية. لقد وضع هذا المشروع أساسا من أجل منافسة مشروع آخر، نادى به زعيم حزب الاستقلال المغربي المرحوم "علال الفاسي". و هو المشروع الهادف إلى إقامة حيز مغربي كبير يبدأ من طنجه إلى سان- لويس "اندر" في السنغال و إلى تومبوكتو في مالي. و ضمن هذا السياق الدولي التنافسي الحاد، لم تكن فرنسا لتسمح - آنذاك- بإنشاء موريتانيا "عربية"، خشية أن تشكل قاعدة خلفية للمقاومة الجزائرية التي كانت نشطة في تلك الفترة.
وهكذا، في إطار معطيات النظام الدولي الذي كان قائما في ذلك الوقت، توجب تحوير "مشروع موريتانيا مستقلة" إلى صيغة مختلفة. لقد أنشئت الدولة الموريتانية لتضم- عبر لعبة ذكية لرسم الحدود- في إطار مجال جغرافي واسع، مجموعات سكانية هي خليط أبيض و أسمر و أسود، تنتمي إلى قوميات مختلفة من عرب و بربر و زنوج و تنحدر من الإمبراطوريات القديمة، والإمارات و المشيخات "البيظانية" و كذا من الممالك و الإمارات و المشيخات "الزنجية" الإفريقية التليدة. أما قاعدة التعايش التاريخي فيما بين هذه المجموعات، فقد تأسست حول عامل ثقافي مشترك أسمى، ظل دوما يمثل حجرها الأساس، ألا و هو "الحضارة العربية-الإسلامية" المبنية على العقيدة الإسلامية و اللغة العربية. و من هنا جاءت تلك التسمية الرنانة و غير المسبوقة للدولة: "الجمهورية الإسلامية الموريتانية".
عند استقلالها سنة 1960 في أعقاب حقبة استعمارية "منزوعة الدسم" حسب تعبير" بول بالتا" - حيث أنها لم تسهم في تشكيل الهياكل الضرورية التي من شأنها أن تساعد في تهيئة التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة القادمة- بدأت موريتانيا مبكرا تواجه مشاكل دبلوماسية جمة على الصعيد الدولي. فأول طلب لانضمام البلاد إلى منظمة الأمم المتحدة كان قد رفض بـ "فيتو" سوفياتي في ديسمبر 1960. و هكذا لم تقبل عضوية بلادنا في المنتدى الأممي إلا بعد ذلك ، حيث جرت في إطار عملية "متاجرة دبلوماسية" واسعة النطاق، قبل أخيرا الاتحاد السوفياتي من خلالها مقايضة "امتناعه عن التصويت" بخصوص موريتانيا مقابل حصول جمهورية منغوليا على عضوية الأمم المتحدة. في ذلك الوقت، كانت المطامع الترابية المغربية في موريتانيا تحظى بمساندة "مجموعة الدار البيضاء" (المغرب، غينيا، مالي، غانا، مصر و ليبيا) وكذا جامعة الدول العربية (باستثناء تونس).
و أمام تلك الوضعية الصعبة، فقد لجأت موريتانيا إلى طلب الدعم من حليفتها "الأولى" فرنسا. و هكذا فتح الباب أمام توقيع اتفاقيات التعاون "الشهيرة" في 19 يونيو1961 بين الدولتين. لقد عززت تلك الاتفاقيات بشكل معتبر نفوذ القوة الاستعمارية السابقة على موريتانيا الدولة الفتية. وهو ما سيجعل من مراجعة تلك الاتفاقيات هدفا رئيسيا للحركة "المطلبية الوطنية" في مطلع سبعينيات القرن الماضي. خاصة بعد أن تبين أن بعض بنودها، كالملحقات المتعلقة باستغلال المصادر الطبيعية الإستراتيجية كالبترول و اليورانيوم و كذا البحرية التجارية و الملاحة البحرية، كانت على حساب السيادة الوطنية.
في سنة 1963، وعلى الرغم من علاقاتها المتميزة مع إفريقيا الفرانكوفونية وخاصة مع الدول المعتدلة في "مجموعة منروفيا"، فقد نشب خلاف حدودي ما بين موريتانيا ومالي. وقد تمت تسوية هذا الخلاف، أيضا، بمساعدة فرنسا، عبر "معاهدة خاي" التي سمحت للدولتين بتطبيع علاقاتهما.
في سنة 1967، وقعت موريتانيا - ضمن محاولة لموازنة و تلوين سياستها الخارجية بمسحة اشتراكية - اتفاقية تعاون اقتصادي وفني وثقافي مع جمهورية الصين الشعبية، التي منحتها قرضا بدون فوائد بقيمة مليار فرنك غرب إفريقي و57 مليون دولار أمريكي في سنة 1971. وهكذا، كانت الصين وراء العديد من الانجازات العامة في مجال البنية التحتية الثقافية مثل دور الثقافة والشباب، و الاقتصادية-الخدمية مثل ميناء انواكشوط العميق، والاستصلاح الزراعي لتجريب إنتاج الأرز وكذا تزويد مدينة انواكشوط بالماء الشروب.
في سنة 1972، موريتانيا قد أنشأت مع السنغال ومالي منظمة استثمار نهر السنغال (م.ا.ن.س)، كاستمرار لسياستها الإفريقية، خاصة اتجاه بلدان الجوار؛
في سنة 1972 أدت مراجعة "اتفاقيات التعاون" المبرمة مع فرنسا إلى تأزيم العلاقات الخارجية لموريتانيا مع المستعمر السابق. و في هذا الصدد تم تفسير تلك القرارات السيادية التي اتخذتها موريتانيا، في مجملها، على أساس دلالاتها القوية على مستوى السياسة الخارجية للبلاد. أما القرارات المتخذة فكانت تتعلق بالانسحاب من منطقة الفرنك الغرب إفريقي و سك العملة الوطنية "الأوقية" و إنشاء الشركة الوطنية للصناعة والمناجم (سنيم) و تأميم شركة "ميفرما" التي كانت معظم رساميلها تعود لخصوصيين فرنسيين، أساسا من عائلة "روتشيلد" المصرفية اليهودية التي كان فرعها في أبريطانيا يمول في العشرينيات، شراء أراض للمستوطنين في فلسطين تحت الانتداب البريطاني.
في سنة 1973، تم الاعتراف العربي رسميا بموريتانيا من طرف جامعة الدول العربية، بعد توقيع معاهدة الدار البيضاء التي وضعت حدا للمطالب الترابية المغربية في موريتانيا و مؤتمر انواذيب (14 سبتمبر 1970) الذي حدث فيه تفاهم بين موريتانيا و المغرب و الجزائر حول تنسيق مشترك بغية المساعدة على تحرير الصحراء من الاستعمار الأسباني، حيث تنازل المغرب عن مطامعه الترابية في كل من موريتانيا و الجزائر.
في 10 نوفمبر 1975، تورطت الجزائر في "فضيحة دبلوماسية" غير مسبوقة، كانت بلادنا ضحية لها. كما أنها عكست رعونة مؤسفة لا تليق بالخط التقدمي الذي كان يمثله آنذاك المرحوم "هواري بومدين". لقد قام الرئيس الجزائري - أثناء اجتماع رسمي عاصف مع نظيره الموريتاني في مدينة كولمبيشار الجزائرية- بتهديد ضيفه والضغط عليه و ابتزازه بأسلوب انفعالي غير لائق، لجعله يتراجع عن المضي قدما في عملية تقاسم الصحراء مع المغرب- ضاربا بذلك عرض الحائط بكل الأعراف الدبلوماسية الدولية و قواعد اللياقة و "الأتيكيت". وللحظة ما تجاهلت الجزائر المواقف العظيمة لذلك الزعيم التاريخي لصالح قضيتها الوطنية، عندما أدان مباشرة قرارات الجنرال " ديكول" المتعلقة بالتجارب النووية في الصحراء الجزائرية و طالب رسميا بقبول عضوية جبهة التحرير الوطني الجزائرية في المؤتمر الإفريقي في "لاغوس". و لولا حكمة و تبصر "الضيف الموريتاني الرزين " - الذي لم يشأ إعطاء زخم لهذا الحادث احتراما لقيم مشتركة يؤمن بها بدون مزايدات، مكتفيا بإيقاف رجل الجزائر القوي عند حده مع التأكيد على شرح موقفه- لدفعت الجزائر ثمنا باهظا لفعلتها الممجوجة. و مرة أخرى تلقت موريتانيا إحدى ضربات القوة "من نيران صديقة". بعد ذلك، قطعت العلاقات الدبلوماسية بين موريتانيا والجزائر في سنة 1976.
في 14 نوفمبر 1975، تم توقيع "اتفاق مدريد" حول الصحراء الغربية بين موريتانيا وإسبانيا والمغرب. و تم بموجبه تقاسم هذا الإقليم حيث حصل المغرب على الثلثين و حصلت موريتانيا على الثلث. و قد أثار هذا الموقف ردة فعل شديدة من جانب جبهة "البوليساريو" و حليفتها الجزائر، التي بدأت بهجمات مسلحة ضد موريتانيا. وهكذا دخلت بلادنا ما سيعرف لاحقا بـ "حرب الصحراء"، التي سرعت عودة موريتانيا تحت مظلة الحماية الفرنسية من أجل تأمين حمايتها الذاتية و حوزتها الترابية.
في سنة 1977، كانت فرنسا -التي هدأ غضبها على موريتانيا بعد أن دخلت الحرب- تجتهد في تقديم المساعدة العسكرية لها في مجال تنظيم وتدريب القوات المسلحة. لقد رفعت بذلك تعداد الجيش الموريتاني من 3.000 إلى 18.000 جندي ما بين 1975 و 1978. كما قطعت أيضا خطوة إضافية في إطار ذلك الدعم، عندما قامت الطائرات الحربية الفرنسية "جاڭوار" بقصف وحدات المقاتلين الصحراويين التي كانت تهاجم الأراضي الموريتانية.
في سنة 1978 ، و بعدما قررت فرنسا التخلي عن دعمها العسكري لموريتانيا، خشية أن تعلق في أوحال النزاع الصحراوي، أطاح انقلاب عسكري بالرئيس المرحوم " المختار ولد داداه"، و كان شبح الدور الفرنسي يطل من خلفية الموقف آنذاك، بينما كانت حكومتها تحث العسكريين، المبتهجين بالسلطة، على إخراج موريتانيا من تلك الحرب التي كانت تسيء إلى العلاقات الفرنسية مع الجزائر. لقد كانت باريس - في ذلك الوقت - تبحث عن حماية مصالحها التي كانت أكثر أهمية في الجزائر عما هي عليه في انواكشوط.
في سنة 1980، غيرت موريتانيا – التي دخلت في حلقات من "تسونامي" الانقلابات العسكرية - اتجاهها بزاوية ميل حادة، عندما وقعت "معاهدة صداقة" مع الجزائر في الوقت الذي قطعت فيه علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب. ثم ما لبث أن جاءت ردة فعل المغرب على ذلك الموقف بواسطة "وسطاء معتمدين" يوم 16 مارس 1981 عبر محاولة انقلاب عسكري دموي ضد مؤسسات الدولة الموريتانية. هذه المرة، تلقت موريتانيا "ضربة دم" "من نيران صديقة".
في سنة 1980، غيرت موريتانيا – التي دخلت في حلقات من "تسونامي" الانقلابات العسكرية - اتجاهها بزاوية ميل حادة، عندما وقعت "معاهدة صداقة" مع الجزائر في الوقت الذي قطعت فيه علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب. ثم ما لبث أن جاءت ردة فعل المغرب على ذلك الموقف بواسطة "وسطاء معتمدين" يوم 16 مارس 1981 عبر محاولة انقلاب عسكري دموي ضد مؤسسات الدولة الموريتانية. هذه المرة، تلقت موريتانيا "ضربة دم" "من نيران صديقة".
ابتداء من سنة 1981، بدأت موريتانيا في معادلة و تلوين سياستها الخارجية "بمسحة قومية لا تخلو من ابراغماتية" عبر إقامة علاقات تعاون وطيدة مع دول الخليج العربي، خاصة الكويت والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والعراق، التي قدمت جميعا دعما حاسما لسياسة التصحيح الاقتصادي والمالي من خلال مساعدة مالية تزيد على 220 مليون دولار. لقد كان ثلث المساعدة الدولية لموريتانيا ما بين 1985 و 1988 يأتي من دول الخليج العربي.
في سنة 1984، قاد العقيد " معاوية ولد الطايع" انقلابا عسكريا أوصله إلى هرم السلطة. و قد ظهر دور فرنسا من جديد في خلفية ذلك المشهد الذي كانت تغلب عليه صورة نظام حكم منهار تميز بقبضته البوليسية والتسلطية و تسبب - برعونة و عبثية - في قمع الحريات و تخريب مقدرات البلاد الاقتصادية.
في فبراير 1989، انضمت موريتانيا، بموجب معاهدة مراكش، إلى اتحاد المغرب العربي كتتويج لمسار "اندماجي إقليمي" كان قد بدأ من قبل.
في ابريل 1989، أدى حادث حدودي "معزول" - وقع بين أحد المنمين الموريتانيين و أحد المزارعين السنغاليين - إلى اندلاع أعمال شغب دامية واسعة النطاق ضد الموريتانيين في داكار وضد السنغاليين في انواكشوط، امتازت بأعمال عنف متبادلة متفاوتة و تسببت في أضرار جسيمة في الأرواح و الممتلكات من كلا الجانبين. و قد شكل كل من إبعاد آلاف الموريتانيين والسنغاليين بطريقة مهينة إلى ما وراء ضفتي نهر السنغال في اتجاهين متعاكسين، وكذا الطعن في الحدود الجنوبية للدولة الموريتانية، قمة التوتر في مسار تلك الأحداث المؤثرة.
في سنة 1990، وقعت موريتانيا اتفاقية تعاون عسكري وأمني مع العراق، الذي نالت قيادته -آنذاك- تعاطف الحكومة الموريتانية و جزء كبير من الرأي العام الوطني، نتيجة موقفها التضامني المعلن مع موريتانيا "البوابة الغربية للوطن العربي" في محنتها ضد السنغال وحلفائه... و دعمها العسكري الفوري و السخي - خاصة من الدبابات والصواريخ متوسطة المدى- المقدم لبلادنا. في تلك الآونة، كانت موريتانيا تمر في ظرفية لا تحسد عليها، و هي في أمس الحاجة لحشد الدعم الدولي لصالحها في الأزمة التي نشبت مع السنغال، حيث وقفت كل من فرنسا والمغرب و السعودية –إلى حد ما - معه ضد بلادنا.
في سنة 1991، عقب حرب الخليج الثانية على إثر احتلال العراق للكويت، أدخلت علاقات موريتانيا الودية مع هذه الدولة، البلاد في وضعية صعبة مزدوجة. إذ فرضت عليها عقوبات سياسية واقتصادية ومالية من طرف كل من الدول العربية الغنية في الخليج و كذا القوى الغربية و مؤسسات التمويل الدولي التابعة لها. كما ظلت موريتانيا - لفترة طويلة من الزمن- هدفا محببا لانتقادات لاذعة من منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان.
في سنة 1992، وعلى الرغم من العواقب الخطيرة للأزمة مع السنغال والتي ما زالت لم تسو بعد، فقد تم تطبيع العلاقات بين موريتانيا والسنغال وتمت إعادة فتح الحدود بين البلدين الجارين.
في سنة 1995، انضمت موريتانيا إلى "مسلسل برشلونة" باعتباره مشروع "شراكة اقتصادية أوروبية متوسطية" يهدف إلى جعل هذا الفضاء المتعدد الأجناس "منطقة سلم وازدهار" ظل دوما يشكل إغراء غير مسبوق لدولة ترزح تحت وطأة التخلف والفقر والفساد المستشري مثل موريتانيا.
في يوليو 1999، تدهورت العلاقات مع فرنسا بشكل مفاجئ، بعد اعتقال ضابط من الجيش الموريتاني - كان متواجدا في فرنسا ضمن بعثة دراسية- من طرف العدالة الفرنسية بتهم تتعلق بالتعذيب وخرق حقوق الإنسان، تم ارتكابها في موريتانيا. وقد أدى ذلك التوقيف إلى تأزيم و توتير العلاقات الفرنسية الموريتانية، فقامت موريتانيا، بدورها، بطرد المستشارين العسكريين الفرنسيين من أراضيها و فرض تأشيرة الدخول على الفرنسيين من باب المعاملة بالمثل.
في أكتوبر 1999، طبعت موريتانيا علاقاتها مع إسرائيل، في أعقاب "اتفاقيات أوسلو" للسلام التي تمت المصادقة عليها في سبتمبر 1993 من طرف المرحوم " ياسر عرفات" و السيد " رابين". و هكذا، بعد مصر و الأردن، أصبحت موريتانيا الدولة العربية الثالثة التي تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل. و كردة فعل على ذلك، طالبت بعض دول الجامعة العربية بطرد موريتانيا من المنتدى العربي الذي كان قد تأخر جدا في قبول عضويتها أصلا. و انطلاقا من ذلك "الحادث"، فإن موريتانيا - التي بدأت تتقرب من الولايات المتحدة منذ فترة، من خلال الترخيص لها باستعمال أراضيها لتجميع المعلومات حول نشطاء الإسلاميين في شمال أفريقيا- قد دخلت إلى نادي " التحالف من أجل الحرب على الإرهاب".
في سنة 2000، عرفت العلاقات الموريتانية السنغالية - من جديد - توترا شديدا بسبب مشكلة مشروع سنغالي مائي عملاق يهدف إلى إعادة توجيه الجزء الأكبر من مياه النهر لاستصلاح و إحياء "أودية جافة" قديمة Vallées fossiles في الشمال (مثل فرلو، سالوم، سين، بابلون، كاركار، ساندوكو) على مساحة يبلغ طولها حوالي 3000 كلم. فبادرت موريتانيا إلى الاعتراض على المشروع بحجة أنه يشكل استنزافا لمياه النهر و يخرق ترتيبات تقاسمها. كما نددت موريتانيا بـ "النوايا السيئة" للسنغال إزاءها، لتنسحب بعد ذلك من منظمة المجموعة الاقتصادية لدول إفريقيا الغربية (CEDEAO) وسط استغراب الرأي العام الوطني و الدولي.
ابتداء من سنة 2003، عادت "تسونامي" المحاولات الانقلابية من جديد إلى موريتانيا، بعد قرابة 20 سنة من الاستقرار النسبي و الحذر عرفتها البلاد. حيث كانت محاولة 8 يونيو 2003 أهم تلك "موجاتها" و أكثرها دموية على الإطلاق. لقد كانت بالفعل "ضربة قوة" و"ضربة دم" أخرى، لكنها من العيار الثقيل.
و في خريف سنة 2005، دفع انقلاب عسكري العقيد " اعلي ولد محمد فال"، المدير العام السابق للأمن الوطني، إلى هرم السلطة في البلاد، بعد أن حطم كل الأرقام القياسية في طول المدة الزمنية للاحتفاظ بمنصبه على مدار خمس قرن إبان حكم سلفه العقيد " ولد الطايع"، الذي ظل " ولد محمد فال" دوما رجل ثقته بلا منازع. ومرة أخرى، و بالرغم من وضعيتها الهشة وخللها العميق، فإن "شبه تجربة التعددية الديمقراطية و دولة القانون" - التي عرفتها البلاد ما بين 1992 و 2005 على مساوئها التي لا تحصى- لم ترحمها "المعطيات الدولية" و"ضربات القوة" و "ضربات الدم" المتلاحقة. و مرة أخرى، يظهر في خلفية المشهد العبثي الأخير ذلك الصراع العتيد و المزمن بين المصالح الاقتصادية والجيوسياسية للقوى الدولية والإقليمية المتربصة بهذا البلد و بسيادته و بمصالحه و بمستقبله، عبر دوامة محيرة من جدليات التقارب و التناوب والتحالف و التخاصم و التدافع و التنافس و التصارع فيما بين تلك القوى عموما، خاصة منها تلك "الأكسدانتالية"، الفرنسية والأمريكية المتجاذبة على الساحتين الإقليمية و الدولية.
في نهاية هذا الموجز التأريخي، يصبح من الضروري أن نعترف بأنه إذا كان المشروع السياسي الأصلي لموريتانيا يهدف إلى بناء أمة تتجاوز التقسيمات "الإثنية" و"الجهوية" والقبلية، فلا جدال اليوم بأن عوامل غياب الرؤية الواضحة و الصعوبات المرحلية المتعددة للمسار وكذا تقلبات النظام الدولي خاصة، قد قادت في نهاية المطاف مشروع "الدولة الوطنية" (État-nation) إلى أزمة جدية غير مصرح بها. فمنذ إنشائه، لم يكن ذلك النموذج الدولتي يقوم على أي شكل من "الموالاة" على أساس "المواطنة" المنبثقة عن الإرادة الداخلية للأهالي و المعبرة عن لحظة قيام "عقد اجتماعي" بينهم. لذا، تم - شيئا فشيا- تجيير ذلك النموذج الدولتي - بعد أن فقد بريقه- ليوظف ببراعة و عبر مخططات اختزالية، زبونية و ضيقة، يمكن تعريفها باختصار بكونها سلسلة من الممارسات اللامتناهية لما يسميه الباحث الفرنسي "جان فراسوا بايار"، بـ "سياسة البطن" و كذا "ضربات القوة" و "ضربات الدم" التي تتشابه و تتوالى على بلادنا في نوع من "العود الأبدي" التعس.
بعد نصف قرن من الاستقلال الوطني، يظل من الصعب فهم و تفسير ذلك النفوذ الذي تمارسه "العوامل الخارجية" على ترتيبات السياسة الداخلية في موريتانيا، وبالعكس، كذلك يستعصى تقدير حجم و ثقل "المعطى الداخلي" في ترتيبات العلاقات الخارجية لبلادنا. من هنا تنبع الصعوبة القصوى بالنسبة للبحث فيما يتعلق بإجراء تقييم موضوعي لطبيعة الأهداف المرسومة، والمناهج المتبعة والنتائج المحققة لمختلف الممارسات المتعاقبة للسياسات العمومية في هذا المجال.
لقد بدت موريتانيا مترددة ومنقسمة بين خيارين كان التوفيق بينهما يبدو صعبا في تلك الحقبة التي تلت الاستقلال. فبين أن تبني ممارستها السياسية على أساس "وضعها التاريخي" أو على أساس "وضعها الجغرافي"، أضاعت موريتانيا وقتا ثمينا في سبيل إرساء هويتها الوطنية بصيغة تحقق الإجماع. كما أن غياب رؤية واضحة للإجراءات العملية لتثمين مستدام لتلك الهوية الوطنية، بما يسمح بوضع أسس واضحة لسياسة داخلية سليمة قد شكل معوقا جذريا. و كنتيجة لذلك، فقد ولدت السياسة الخارجية الموريتانية من رحم تلك الصدمة الأولى. بينما كان الواجب يقتضي أن تكون السياسة الخارجية للبلاد بلورة لفلسفة السياسة الوطنية بما يعكس القيم المشتركة و أيديولوجية "الدولة الوطنية" الجديدة، مجسدة في استراتيجيات و خطط و برامج - تقوم موريتانيا - من خلالها - بتحديد وإقامة و تسيير علاقاتها مع العالم الخارجي و الحكومات الأجنبية، حسب أهداف مرسومة تحقق المصلحة الوطنية العامة و الخاصة. وبالرغم من مجهودها المتميز في المرحلة التي تلت الاستقلال، ما لبث أن علقت السياسة الخارجية لبلادنا - و هي ما تزال في المهد- في تقديرات "ظرفية"، جعلتها تفتقر إلى العمق و سعة الأفق من حيث المقاربة النظرية و التنفيذ الميداني معا. و فيما بعد، باتت السطحية التي تمت بها معالجة أرجحيه المعطى الدولي وتداعياته الحاسمة على السياسة الداخلية للبلاد، تجد ترجمة وفية لها في طبعات باهتة لـ "سياسات خارجية" يعوزها الانسجام و تفتقر إلى الوضوح و الفاعلية. أما في نهاية مطاف نصف قرن من الاستقلال، فقد انتهى الحال بالسياسة الخارجية الموريتانية إلى حد التماهي شبه المطلق في لعبة تجاذبات الصراع على السلطة و السعي لتقاسم الامتيازات، التي أضحت "شرا مستطيرا" يهدد مصير البلاد. باختصار، لقد أضحت موريتانيا ذلك "الرجل المريض" في المنطقة بسبب السياسة الخارجية.
-4 -
إن موريتانيا، التي حكم "غيابيا" على وجودها بأنه مجرد "رجس استعماري" يهدف إلى تعميق تجزئة جسم الأمة الواحدة، ما لبث أن تم صدها من طرف العالم العربي الذي كانت تشعر- طبيعيا- بأنها كانت الأقرب إليه. لكن موريتانيا الفتية قابلت ذلك الموقف السلبي تجاهها بأريحية لا تخلو من مرارة. لقد وجهت حينئذ اهتمامها نحو بلدان إفريقيا السوداء، فشاركت في تأسيس اتحاد إفريقيا ومدغشكر في سنة 1961 و منظمة الوحدة الإفريقية في سنة 1963. وفي تلك الحقبة، كانت السياسة الخارجية لموريتانيا مستوحاة من عدة عوامل ذات مغزى مهم مثل رسم الحدود الاستعمارية للبلاد فوق نهر السنغال بدلا من رسمها بخط آخر كان يوجد إلى الشمال - سبق لفرنسا أن وضعت تصورا له في فترة ما بين الحربين العالميتين كما ذكرت السنغال بالمطالبة به أثناء الاستقلال- وكذا تسليم السلطة إلى "رجل من بيضان ولاية اترارزة، التي تعد تقليديا أكثر انفتاحا على إفريقيا السوداء"، على حد تعبير" بيار روبير باديل". من هنا نشأت -إذن- وضعية موريتانيا باعتبارها دولة تمثل جسرا ما بين إفريقيا السوداء والعالم العربي. وقد ترجمت هذه المقاربة في مجال السياسة الخارجية إلى "نظرية موريتانيا همزة الوصل"trait d’union ، التي ستظل جاهدة في بحث دؤوب لإثبات مشروعية وجودها على الصعيدين الإفريقي و العربي. لكن تلك النظرة - على وجاهتها - لم تكن لتحجب في الواقع، ذلك الطابع التنازعي الدائم للعلاقة بين المركز و المحيط - كما في حالة بلادنا - أزاء كل واحد من هذين العالمين.
و هكذا، فسر انسحاب موريتانيا من المنظمة المشتركة لإفريقيا و مدغشكر، من جانب أغلب النخب السياسية الزنجية الموريتانية، آنذاك، باعتباره انعطافا سياسيا لصالح توجيه البلاد نحو العالم العربي والتنكر لطابعها الإفريقي الأصيل. كما أن سياسة تعريب التعليم المتسرعة بدء من سنة 1966، والاعتراف العربي بموريتانيا في بداية السبعينيات والتفاهم مع المغرب لتقاسم الصحراء الغربية (1975-1978)، والابتعاد عن فرنسا (1972-1974) و عن منظمات التعاون الفرانكوفونية لجنوبي الصحراء، كانت كلها عوامل أسهمت – بالإضافة إلى التدخل الخارجي في تلك الحقبة- في تأجيج مخاوف النخب السياسية للمجموعات الإثنية الموريتانية من "البولار" و"السوننكه" و"الولوف". لقد قرأت تلك النخب في الأحداث المذكورة مجرد رسالة استفزازية، مفادها أن النخب السياسية للمجموعة العربية-البربرية قد انتهجت بشكل متعمد سياسة إدماج تدريجي و منهجي بهدف طمس هوية المجموعات الزنجية الموريتانية و - بالتالي- إذابتها في المجموعة العربية-البربرية بحكم كونها تشكل الأغلبية.
و في هذا السياق، فهم ضم موريتانيا لجزء من الصحراء الغربية باعتباره نقلا لمركز الثقل الجغرافي للبلاد نحو الشمال، تعزيزا لانتمائها المغاربي، و من ثم، العربي كنتيجة حتمية لتكثيف العلاقات مع الدول العربية في المشرق (المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، الكويت والعراق، الخ.....).
إن ردة فعل النخب السياسية الموريتانية في منطقة حوض النهر - التي بدأت تتخذ تدريجيا خطا راديكاليا منذ 1986 عبر نشر "بيان" الزنجي الموريتاني المضطهد، وإنشاء قوات التحرير الإفريقي في موريتانيا (فلام) والمحاولات الانقلابية العسكرية االمتكررة "المزعومة" الهادفة إلى تحويل موريتانيا –قسريا- إلى "والو- والو" - قد قادت الى تفاقم المنافسة و المضاربة العرقية، بشكل لا محدود، بين التيارات الوطنية المتصارعة في سباقها المحموم نحو الوصول إلى السلطة. و في سنة 1989، أحدثت الأزمة الموريتانية - السنغالية جرحا وطنيا نازفا، أصبحت تغذيه المزايدات المتطرفة من كل الجهات. و هكذا، شكلت الجفوة بين فرنسا وموريتانيا، آنذاك، ، وانتماء الأخيرة إلى اتحاد المغرب العربي، وعلاقاتها الجيدة مع العراق، لاسيما في مجال الدفاع، حججا إضافية لإدانة "عروبة زائدة في موريتانيا " أضحت غير مقبولة بل ربما خطيرة من وجهة نظر بعض النخب السياسية الزنجية الموريتانية. و من ثم، تم توظيف كل هذه المعطيات و تأويلها سياسيا برسم المنافسة الإثنية بين التيارات الوطنية الناشطة في الساحة الموريتانية و الدولية و القوى الداعمة لها، في سياق صراعاتها اللامتناهية في لعبة الوصول إلى الحكم أو التمسك به مهما كانت المسوغات.
عرف تأرجح المعطيات السياسية الداخلية/الخارجية في موريتانيا، انطلاقة جديدة مع مجيء الديمقراطية و بفضل التعديلات التشريعية والمؤسساتية المحدودة - طبعا- التي أدخلتها آنذاك على المشهد الوطني في أعقاب حرب الخليج الثانية، وعلى إثر "التوصيات المحفزة" لمؤتمر القمة الفرنسي الإفريقي السادس عشر المنعقد في "لابول La Baule" بفرنسا، حيث ربط خطاب "ميتران" الشهير في 20 يونيو سنة 1990 الحصول على التمويلات بشرط تطبيق الديمقراطية في تلك البلدان. لقد أدت عوامل متعددة مثل القطيعة مع العراق والاستجابة اللامشروطة لوصفات الإصلاح الاقتصادي و المالي على يد مؤسسات "بريتون وودز" والدخول في "مسلسل برشلونة" والمشاركة في الحرب على "الأصولية" تقربا من الولايات المتحدة، و التطبيع مع إسرائيل خاصة، إلى ترسيخ سلطة الحكم، الذي كان قائما آنذاك، على نحو شمولي اتسم بالغطرسة السياسية و الأمنية، إلا أن العوامل المذكورة بوأت موريتانيا أيضا "مكانة" دولية طالما اعتبرت مرموقة في حينها. لكن ديناميكية "ديموقراطية لابول La Baule" رغم من جاذبيتها في مرحلة معينة، ما لبث أن وصلت الى حدودها القصوى لتبلغ نهايتها الغريبة. لقد ظلت نخب وطنية واسعة تنتمي للمجموعة العربية البربرية، تعتبر أن استمرار تحكم اللغة الفرنسية في المجال العمومي الرسمي خرقا للمادة 6 من دستور 1991، و المضايقة المستمرة للتيارات "العروبية و "الإسلامية" و الاعتقالات التعسفية الجماعية ضد الوطنيين من نشطائهم و كذا استمرار الحكومة في التطبيع مع إسرائيل خاصة، إنما هي أخطاء فادحة، قادت السياسات العمومية على الصعيدين الداخلي والخارجي نحو نوع من "الاضطهاد السياسي" غير المبرر ضد العرب في موريتانيا. و من جديد، فإن "موريتانيا الرسمية"، التي سبق أن تم تصنيفها - باسم عروبة مزعومة- في الصف المعادي "للطابع الإفريقي" للبلد، قد وجدت نفسها، حينئذ، في موقف مضاد عمليا لتلك العروبة.
أما مؤخرا، في سنة 2005، فإن تلك الوضعية المتضاربة لرصيد التجاذبات و الصراعات "القديمة الجديدة" المتشابكة في الساحة الموريتانية قد شكلت تركة مضطربة واجهت السلطات الانتقالية للمجلس العسكري للعدالة والديمقراطية إبان الانقلاب العسكري في 3 أغشت. هذا "الميراث الوطني" المتشعب الذي تختلط فيه الحقيقة بالزيف والوعي باللاوعي والداخلي بالخارجي و تعتريه الانتكاسات الفجائية، و تتخلله "ضربات القوة" و"ضربات الدم" التي تطفو تارة على السطح و تختفي في العمق تارة أخرى، كانت السلطات الانتقالية قد اجتهدت بحزم و حذر على "تحويله"، كرصيد مأزوم، إلى الحساب الجاري في ذمة الحكم الجديد المنتخب ديمقراطيا، الذي يتابع المراقبون كيفية تعامله مع تلك التركة.
- 5 -
لقد ظل الرأي العام الوطني - بالرغم من ارتفاع نسبة الأمية و غياب و مصادرة حرية التعبير عبر كل المراحل السياسية المتعاقبة شديد الحساسية - في الغالب- أزاء أحداث السياسة الدولية. أما السياسة الخارجية لموريتانيا و آليات تطبيقها وجهازها الدبلوماسي، فقد بقيت دائما شبه مجهولة و ضعيفة الصدى لدى هذا الرأي العام. وبشكل ما، فإن الوعي بأهمية المعطيات الدولية - التي فرضتها على بلادنا ظروفها الجيوسياسية والإستراتيجية وما لها من تأثيرات جذرية على سياستها الداخلية- قد بقي باستمرار دون المستوى المناسب لدى جميع السلطات السياسية المتعاقبة. إن السطحية التي تمت بها معالجة أرجحيه المعطى الدولي وتأثيراته الحاسمة على السياسة الداخلية للبلد، وجدت دوما ترجمة أمينة لها في طبعات باهتة لـ "سياسات خارجية" يعوزها الانسجام و تفتقر إلى الوضوح و الفاعلية.
إن إعداد سياسة خارجية لدولة ما، يعتبر جهدا فكريا، سياسيا و مهنيا مضنيا، يتطلب الكفاءة و الإرادة. إنه تمرين معقد يتطلب تحضيرا دقيقا، مكتملا و متحفظا، على أن يأخذ بعين الاعتبار العديد من المتغيرات التي تشكل كلا موحدا، متفاعلا و ديناميكيا. إنه عمل يفترض معرفة ممتازة بحقائق المحيط الدولي (وقائع، تطورات، تغيرات، فرص، تهديدات، الخ...) من جهة، و بجزئيات السياق المجتمعي الداخلي للبلد، بالإضافة إلى الإطار المؤسسي المناسب وكذا الميكانيزمات الملائمة للتنفيذ والمتابعة و التقييم، من جهة ثانية. و في هذا السياق، يعتبر فهم الروابط التفاعلية بين السلوك الداخلي والسلوك الدولي عملية بالغة الصعوبة إذ، عادة ما، تشكل الأساس الذي يبنى عليه مسلسل إنضاج و اتخاذ القرارات من قبل الفاعلين. و هي تتطلب - بالتالي- الاستعانة بالعديد من مجالات المعرفة و الخبرة والاستشارة والتجربة في مجالات واسعة و متشعبة (التاريخ، السياسة، الاقتصاد، القانون، علم الاجتماع، الجغرافيا، العلاقات الدولية، الجغرافيا السياسية، علوم الأمن و الدفاع، التحليل الإستراتيجي، فن المفاوضات، الخ...). فالدبلوماسية التي تمثل بالنسبة للعلاقات الدولية ما تمثله "الجراحة" بالنسبة "للطب" على حد تعبير "جان فرانسوا رفل"، لا تقتصر البتة على أنشطة السفراء، بل إنها ذات طابع متعدد القطاعات، فهي تعني بكافة المجالات و الميادين الحيوية المتصلة بالمصالح العامة للبلد المعني.
أما في موريتانيا، فان إعداد السياسة الخارجية و تنظيم الممارسة الدبلوماسية قد شكل - منذ زمن بعيد- اختصاصا مصونا ضمن "المجال الخاص" لرؤساء الدولة المتعاقبين. و بدون أن يمنحوا أنفسهم الوسائل التي تفرضها تعقيدات هذه المسؤولية وفق المعايير الدولية المتعارف عليها في هذا المجال، فقد دأب جل هؤلاء الرؤساء على أن يكونوا هم وزراء خارجية أنفسهم بل وسفراء أنفسهم كذلك. وحيث أن السفراء – سواء كانوا من "المكافئين المؤلفة قلوبهم" أو من "المعاقبين المبعدين" قد أضحوا "عاطلين" عن العمل، فإن أغلبهم قد انهمكوا في أنشطة أخرى، ربما كانت "أقل دبلوماسية" لكنها أكثر منفعة في الاستعداد "لمعاش" غالبا ما يأتي بدون مقدمات. و بالرغم من عظم هذه المسؤولية العمومية الضخمة، فنادرا ما نجد بعض رؤساء الدولة الذين حرصوا على الاستعانة بالثالوث المتلازم الذي ظل مفقودا، من أجل تبرئة ذمتهم من تلك المسؤولية كما ينبغي. و يتعلق الأمر هنا، بالمصادر البشرية ذات الكفاءة المعرفية والخلقية و المصادر التنظيمية للخبرات و الاستشارات المناسبة والمصادر المالية الضرورية للصرف بطريقة شفافة على تشغيل هذه المنظومة المعقدة بغية تحقيق النتائج المرجوة.
و هكذا على مدى 50 سنة من الاستقلال، لم تشهد البلاد -على أيدي رؤساء الدولة الذين تعاقبوا على سدة الحكم في موريتانيا - إنشاء أي مجلس وطني للأمن أو أي مجلس وطني للدفاع، أو أي منظومة تحكم "عملاتية" للتنسيق العام بين السياسات الداخلية و الخارجية أو إقامة أية معاهد للدراسات و البحوث الإستراتيجية المتخصصة القادرة على تقديم الاستشارة النوعية أو التكوين و التدريب المهني في هذا المجال. حقا، لا أحد يصدق اليوم كيف غاب عن صناع القرار في بلادنا أن "يستغنوا بكل بساطة" عن الآليات و الأدوات الموضوعية الضرورية لاتخاذ القرار طيلة هذه الفترة الزمنية. بل كيف غاب عن رؤساء موريتانيا المتعاقبين أن هذا النوع من الأجهزة الاستشارية الرفيعة المستوى قد باتت متعارفا عليها في التقاليد الدولية. و هي تتميز عادة بتشكيلة فكرية و علمية و مهنية متعددة الاختصاصات و المنابع، مختارة و مدروسة بعناية و موضوعية فائقة، لتتولى دور "أحواض فكرية عمومية" public think tank لإنتاج و إنضاج الأفكار و الخطط و المقاربات و المفاضلة بين الخيارات و الحلول السياسية المتاحة في مجال السياسات الداخلية والخارجية والأمن والدفاع. و ما يعزز و يضمن مصداقية و حصافة العمل الاستشاري لهذه الأجهزة - فضلا عن القدرات المعرفية المتميزة للقائمين عليها عادة- هو ذلك "الغنى" الناجم عن مدى "اختلاف" العقائد والتجارب والخبرات و المصالح و المشاعر فيما بين نخب "الإنتلجنسيا" الوطنية التي تسهر على تشغيلها، بالإضافة إلى مستوى الرصيد الوطني و القدرة على حسن تقدير المصلحة الوطنية، التي يفترض أن تتمتع بها تلك النخب. إن نتائج عمل هذه الأجهزة ، بعد المرور بمرحلة التحكيم على مستوى الحكومة وعلى مستوى رئيس الدولة، تسمح بالتوصل إلى الحلول السياسية الأكثر عقلانية والأكثر ملائمة للمصلحة الوطنية العليا، لتتم بعد ذلك صياغتها النهائية و تدرج مباشرة ضمن استراتيجيات و خطط عمل وطنية متماسكة تتولى تنفيذها الإدارات والمصالح العمومية المدنية و العسكرية وممثلوها سواء داخل البلاد أو خارجها، لكي تتسنى متابعتها و مراقبتها و تقييمها من طرف المواطنين و ممثلي الشعب و فعاليات المجمع المدني و الصحافة.
لقد بدأ مسار انزلاق ممارسة الحكم نحو تلك "العتبة الفوقية"، التي تجلت بوضوح شديد في مجال السياسة الخارجية، في مرحلة مبكرة غداة استقلال موريتانيا. فترسيخ "السلطة الرئاسية" قد مر بمسلسل تركيز مزدوج مؤسساتي من جهة و سياسي من جهة ثانية. فالدستور "البرلماني" لسنة 1959 قد فسح المجال في سنة 1961 أمام دستور مستوحى من "النظام الرئاسي". و موازاة مع ذلك، فقد حلت "أحادية حزب الدولة" محل التعددية الحزبية الناشئة آنذاك، بعد دمج الأحزاب التي كانت موجودة في إطار "حزب الشعب الموريتاني" الذي أصبح "حزبا واحدا" بله وحيدا، عبر "مراجعة الدستور" سنة 1965. أما بعد ذلك، فقد تحول هذا "التقليد المتعالي" في أسلوب الحكم إلى "واقع مؤبد" تحت مسميات أخرى متحذلقة، تفننت - لاحقا - كل أنظمة الحكم المتعاقبة في إخفائها تحت أقنعة مستعارة.
لقد بدأ مسار انزلاق ممارسة الحكم نحو تلك "العتبة الفوقية"، التي تجلت بوضوح شديد في مجال السياسة الخارجية، في مرحلة مبكرة غداة استقلال موريتانيا. فترسيخ "السلطة الرئاسية" قد مر بمسلسل تركيز مزدوج مؤسساتي من جهة و سياسي من جهة ثانية. فالدستور "البرلماني" لسنة 1959 قد فسح المجال في سنة 1961 أمام دستور مستوحى من "النظام الرئاسي". و موازاة مع ذلك، فقد حلت "أحادية حزب الدولة" محل التعددية الحزبية الناشئة آنذاك، بعد دمج الأحزاب التي كانت موجودة في إطار "حزب الشعب الموريتاني" الذي أصبح "حزبا واحدا" بله وحيدا، عبر "مراجعة الدستور" سنة 1965. أما بعد ذلك، فقد تحول هذا "التقليد المتعالي" في أسلوب الحكم إلى "واقع مؤبد" تحت مسميات أخرى متحذلقة، تفننت - لاحقا - كل أنظمة الحكم المتعاقبة في إخفائها تحت أقنعة مستعارة.
و حيث أن تسيير شؤون السياسة الخارجية لموريتانيا قد ترك "حصريا" لتقدير رئيس الدولة و"المقربين منه" و حسن "تخميناتهم"، بحسب الكفاءة الفردية والمزاج الشخصي للمعنيين، فما لبث أن دخلت تلك السياسة الخارجية في دوامة تحولت من خلالها إلى موضوع "سوقي"، ثم إلى موضوع "شخصي" و أخيرا، إلى موضوع "محرم " tabou، فخرجت بذلك عن كل رقابة مهما كانت موضوعية، أو بالأحرى، ديمقراطية.
و بمرور الزمن و تراكم الإحباط من جراء غياب التغيير الحقيقي والإصلاح الجذري، فإن السياسة الخارجية الموريتانية التائهة، قد بدأت تطرح إشكالية "الالتزام الوطني" الذي يكتسي أحيانا اعتبارات أخلاقية و دينية. ويتعلق الأمر هنا بالتساؤل حول كيفية تحديد نطاق صلاحية المبادرات و أهلية اتخاذ القرارات من طرف المسؤولين العموميين. حيث لا توجد أي حكومة، مهما كانت استبدادية، تستطيع أن تتجاهل حجم العون أو الضرر الذي قد يمثله موقف الرأي العام من سياساتها. و كذلك، لا يمكن لأي حكومة مهما كانت ديمقراطية، أن تخفى عليها حدود و ظروف المساندة الشعبية لسياستها الخارجية.
و في هذا السياق، يبرز مثالان يشكلان برهانا ساطعا على التناقض الصارخ في السياسة الخارجية لموريتانيا و على محدودية دبلوماسيتها على الصعيد الدولي. أما المثال الأول فيعود إلى سنة 1977، عندما دخلت موريتانيا في حرب الصحراء الغربية، و وجدت نفسها مجبرة على طلب المساعدة العسكرية من فرنسا للدفاع عن نفسها، على الرغم من أن موريتانيا قد خرجت للتو من مراجعة "اتفاقيات التعاون" "المنبوذة" مع تلك القوة الدولية في سنة 1972. لقد أظهر ذلك الموقف نوعا من الانفصام في السياسة الخارجية للبلاد بين الرغبة في الاحتفاظ بـمزية "الصيت التقدمي" المناهض للاستعمار، الذي كانت تتمتع به بين أقطار العالم الثالث من جهة، و من جهة أخرى، تلك الحاجة الماسة لضمان الوحدة الترابية والسيادة الوطنية لها، و لو بالاعتماد على الاستعمار. و أما المثال الثاني، فهو يعود لأكثر من 20 سنة بعد تاريخ المثال الأول. عندما أقامت موريتانيا في سنة 1999 علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل، على الرغم من أن خيار السياسة الخارجية هذا، سيظل الأكثر غموضا و الأكثر إثارة للجدل في أوساط الرأي العام الوطني، إلا أن توجهات السلطات الموريتانية الجديدة المنتخبة ديمقراطيا، على المستوى الدولي، ما زالت تتأرجح بين الرغبة في الحفاظ بـ "المزايا التنافسية" المرتبطة بالإبقاء على ذلك "المكسب الدبلوماسي" النفيس من جهة، و الرغبة المتنامية في تحقيق "سبق سياسي" من خلال كسب ود جزء كبير من الرأي العام الوطني و الدولي عبر وضع حد لتلك العلاقات الدبلوماسية مع الدولة العبرية، مع المجازفة باحتمال ضياع الامتيازات المصاحبة المفترضة.
بطبيعة الحال، ليس من السهل العثور على الطريق السليم في مجال السياسة سواء كانت خارجية أم داخلية، و طريقة المحاولة و الخطأ قد تكون مكلفة من حيث الجهد والوقت والتضحية. بيد أن ثمة أمرا واحدا لا جدال فيه، و هو أن السياسة الخارجية والدبلوماسية و قضايا الدفاع و الأمن هي مجالات بالغة الحساسية و لا يمكن أن تنسجم مع الارتجال و اللامبالاة.
إن حياة أمة ما لا تتوقف عند وضعية جامدة، فعلاقاتها مع الآخرين تستمر، تتوسع وتتغير. و ينتج عن ذلك كم هائل من الأفعال وردود الأفعال قد يكون البعض منها اختياريا والبعض الآخر اضطراريا، بيد أنه يجب أن تكون جميعها منظمة و منسقة في إطار سياسة خارجية محكمة، توضع في خدمتها الإمكانيات والأنشطة الدبلوماسية سواء منها الدبلوماسية الكلاسيكية أو الدبلوماسيات الموازية، التي ينبغي أن تعمل بجدية حسب القواعد المهنية المتعارف عليها في ميدان هندسة العلاقات ما بين الدول والشعوب.
في هذا السياق، لا يمكن أن يتعلق الأمر هنا بتغذية الأوهام. فقوة المنافسة الدولية اليوم - التي ما فتئت تغذيها العولمة و كذا الظواهر الخارجة عن سيطرة الدول مثل الجريمة المنظمة و الإرهاب و تهريب المخدرات و الهجرة - لا ترحم. إنها تحكم على الدولة التي لا تحسن المناورة بالخضوع حتما لمناورة دولة أخرى عرفت كيف تجيدها. و الأمل المنطقي الوحيد المتبقي هو أن تتجه عقلانية السياسيين نحو الموائمة بين المصالح المتنافسة للدول بدلا من تأجيجها.
أما اليوم، و بعد التغيرات العميقة التي تجري حاليا في العديد من البلدان العربية، فإن السياسة الخارجية لموريتانيا و دبلوماسيتها مدعوتان إلى تغيير آفاقهما و إلى التجديد. إن إصلاحا حقيقيا و شاملا لا بد يطال تلك السياسة الخارجية و دبلوماسيتها من حيث المضمون و الشكل، و لم يعد بالإمكان أن يتأخر بعد الآن.
لقد حان الوقت- بعد نصف قرن من الزمان- لكي تضع سياستنا الخارجية التائهة عصا الترحال. ها قد أزفت ساعة الحقيقة، لكي تعاد أخيرا صياغة مجمل السياسات الوطنية الخارجية منها و الداخلية على أسس أخلاقية و مهنية وطنية صلبة، بعد أن ظل هاجسها محصورا، فيما مضى، بالاهتمام بأمن الأرض والحاكم على حساب أمن المواطن نفسه. إن مثل هذا التغيير في الأفق، يقتضى من الآن فصاعدا أن تركز السياسات العمومية أولوياتها على المواطن أولا و قبل كل شيء، لتجعل من حفظ كرامته و تحقيق طموحاته في التنمية المستدامة و رعاية أمنه البشري و مصالحه الحيوية المشروعة نقطة مرجعية لكل عمل وطني مستقبلي سواء كان ثورة أو إصلاحا.
محمد السالك ولد ابراهيم
medsaleck@gmail.com
انواكشوط، 25 مارس 2011